Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
TUNISIE XXI over-blog.com

Histoire moderne et contemporaine, Education, Pédagogie, Actualités politiques et socio-économiques, développement régional et Territorial,témoignage...

"حكاية رجل قرر "تسليم نفسه للدولة

هي حكاية حقيقية تابعت بعض أطوارها منذ ثلاثة أسابيع تقريبا

وهي حكاية يشرّفني كثيرا أن أخصّص لها من وقتي ومن جهدي وأن أنقلها الى الناس...

***

بطل الحكاية موظف عمومي، شاب في مقتبل العمر من أحد الأرياف القصية للبلد العميق يقوم على أسرة محدودة الإمكانيات ووفيرة العدد...

تشاء الأقدار أن يجتمع عليه منذ سنة 2013 مرضان أقعداه تماما: قصور كلوي أصبح تاما ومزمنا منذ سنة 2015 وقصور كبدي تام.

أستكمل ملفه الطبي بما في ذلك موافقة المتبرعين وموافقة اللجنة الطبية على تطابق التحاليل منذ سنة 2016، ومنذ ذلك التاريخ وهو يجوب أروقة المستشفيات قصد إجراء العملية الجراحية المتعلقة بالكبد دون جدوى وتقدر كلفتها بمائتي ألف دينار (200 ألف دينار)، كل ذلك وهو مقعد يتنقل على كرسي متحرك. خمس سنوات وهو يقوم بذلك دون كلل أو ملل أو يأس" بقلب ينبض بالحياة ولكن بكليتين وكبد متوقّفين تماما عن العمل." وفقا لعبارة خاله السيد منصور العيوني.

ومن رحم هذه المعاناة الشخصية أبدع تشخيصا وجيزا ودقيقا لوضع المنظومة الصحية الوطنية قد لا يصدر حتى عن مختص:

" تضارب المعلومة الصّحّية، تغليب الإجراءات على حياة المريض، وغياب الإرادة السّياسيّة."

انطلقتْ منذ مطلع شهر ماي 2020 حملة لفائدته تستهدف دفع السلطة العمومية المعنية إلى تبني ملفّه كما تستهدف جمع تبرعات مالية لتغطية كلفة العملية الجراحية خاصة إذا ما تقرر إجراؤها خارج تونس. وتشير آخر الأخبار أن هذا الجهد أثمر لقاء مباشرا مع السيد وزير الصحّة منذ أيام قليلة والايواء بالمستشفى الجامعي بسهلول بتاريخ 11 جوان 2020 لإجراء التحاليل اللازمة بما يُيسّر اتخاذ القرار في شأن مكان إجراء العملية الجراحية إما في تونس أو في دولة أجنبية. أما حصيلة التبرعات فما تزال دون المطلوب بكثير.

***

هذه باختصار بعض حيثيات هذه الحكاية التي يوجد مثلها الكثير في بلادنا خلف الأبواب المغلقة وفي الأقاصي المنسية...

وللقارئ أن يتصوّر هول المعاناة النفسية والذهنية والمادية التي كابدها هذا الشاب وكابدتها أسرته طوال هذه السنوات... ولا تزال هذه المعاناة مستمرة...

ولئن شدني إلى هذه الحالة هول المعاناة وعجز المنظومة الصحية الوطنية على التكفل السريع بمثل هذه الحالات الصحية والاجتماعية القصوى ... فإن أكثر ما شدني أليها هو ما أظهره هذا الشاب من جلد وصبر وتفاؤل وإصرار على الحياة... وحبّ للوطن وإيمان بالدولة رغم الضيم والمعاناة وقلة الحيلة...ينقل عنه المقربون أنه كثيرا ما يردّد "سلّمت نفسي للدولة"، يقولها لا غاضبا أو ناقما أو متهكما بل جادا، مؤمنا، صادقا ومُصدِّقا...

كلّ الصّور التي شاهدتها تظهره مبتسما والابتسامة الصادقة لا تخطئها العين ولا الوجدان...

وكل الأشرطة المصورة التي شاهدتها تظهره مبتسما حينا وضاحكا أحيانا أخرى مُهَوِّنا الأمر على غيره قبل نفسه...

أبان الرجل عن قوة عجيبة وهو في منتهى الضعف البدني والمادي، وعن أمل لا يفتر وهو في حالة كل ما فيها يدعو إلى اليأس، وعن تفاؤل حرّك المحيطين به وهو في وضع كل ما فيه يغذي التشاؤم والسوداوية، وعن إصرار على الحياة في وضع يبدو فيه الموت بمقاييسنا الدنيوية هو الأكثر احتمالا...كيف لمن في حالته أن يكون حمالا لكل هذه المعاني والقيم التي قد لا تجدها عند من أقبلت عليه الدنيا معافاة ومالا وجاها وسلطانا؟

***

ما يقتلنا غير "العادي" وغير الترويض على "العادي" وغير التسليم "بالعادي" حقيقة ثابتة في حياتنا... لست فيلسوفا ولا حتى متفلسفا، ولكن حالة السيد مراد العيوني جعلت جملة من الأسئلة – التي قد تبدو للبعض عادية ومحسومة وغير ذات بال -  تتدافع في ذهني:

ما القوة؟ ما الضعف؟ ما الأمل؟ ما اليأس؟ ما الموت؟ ما الحياة؟ ما التفاؤل؟ ما التشاؤم؟ ما الفقر؟ ما الغنى؟ ما الجهل؟ ما الحكمة؟ ما العدل؟ ما الحقّ؟ ...

وبعض هذه الأسئلة موجع بما لا يوصف، يتلبّس العقل والوجدان حتّى أن لا فكاك منه: هل يا ترى يكون هذا مصيره لو كان من ذوي المال والأعمال والجاه والسلطان أو من" المقربين زلفى"؟ أيُعقل أن يُترك من هو في مثل حالته طيلة هذه السنوات بلا علاج حتى ينتهي الى ما انتهى اليه؟ والسؤال الأشدّ إيلاما بالنسبة لي والذي لازمني لسنوات طوال ولا يزال: مَن لِمن لا سند له ولا وسيلةَ في هذه الدنيا وما أكثر هؤلاء؟ وأي معنى للحرية وللكرامة ولحقوق الانسان بالنسبة لمن هو في مثل حالته؟ أم هي مبادئ تُعْلن وشعارات تُلقى واستِكْمال لمسار ِالخداع التاريخي الذي ما فتئ بعض الانسان يمارسه على بعض الانسان منذ أن بدأ الاجتماع الإنساني؟

***

هذه هي حكاية السيد مراد العيوني، المواطن التونسي والموظّف العمومي (السجون والإصلاح/ وزارة العدل) أصيل الرقاب الذي قرر "تسليم نفسه للدولة".... لن أنسى عبارته هذه أبدا.

لا أعرف الرّجل (1) إلا من خلال الصور والأشرطة ولكني شديد التعاطف معه... ولعلّ في بعض من هذا التعاطف محبّة للرقاب وأهلها الطيبين وهم من احتضن بداياتي المهنية منذ ما يقارب أربعة عقود مضت...

شكرا للسيد منصور العيوني ولأصدقاء السيد مراد العيوني على الجهد المبذول في الإحاطة بهذه الوضعية الصّحية والاجتماعية الحرجة...

هذا الرجل في حاجة الى الدّعم المعنوي والعون المادي ... فلا تبخلوا عليه.

من يدري؟ عسى أن يكتُب الله له عمرا جديدا وحياة مديدة فَيَسْعَدَ بأُختِه –التي انقطعت عن دراستها وتبرّعت له بجزء من كبدها وهي في مقتبل العمر- وسائر أهله ويُسْعِدَهم.

---------

(1) تواصلت مساء الجمعة 12 جوان 2020 هاتفيا مع السيد مراد العيوني لأوّل مرة بعد أن تيسّر لي الحصول على رقم هاتفه الشخصي. وجدت رجلا عميق الايمان، صابرا، مستبشرا، حَيِيّا، متعفّفا، متفائلا بما في الانسان من خير ومحبّة وعطاء، شاكرا ذاكرا.  

Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article