Histoire moderne et contemporaine, Education, Pédagogie, Actualités politiques et socio-économiques, développement régional et Territorial,témoignage...
16 Octobre 2020
1. لا شك في أن الجائحة الوبائية التي تعيش على وقعها البلاد منذ أشهر تمثل تحديا حقيقيا لا فقط للدولة بمختلف أجهزتها بل وكذلك للشعب بأسره. وتبين تجربة الأشهر الماضية من التعامل مع هذه الجائحة وجود توجّهين في الاشتغال عليها. يتمثل التوجّه الأول في الاشتغال على اليومي وعلى الأمد القصير إجمالا بحيث تنكب كل الجهود على "إطفاء الحرائق" التي تظهر هنا وهناك في قطاع الصحة وفي قطاع التعليم وفي القطاعات المنتجة... ويتمّ ارتجال الحلول الآنية في الزمن والنقاطية في المجال استنادا الى رأي اللجنة العلمية لمجابهة هذه الجائحة، ويجري اختزال المسألة برمتها في "بروتوكول صحي" وفي القدرة على التقيّد به وعلى تنفيذ مقتضياته على الأرض. والثابت أن هذا التوجّه هو الغالب على المشهد إجمالا وهو يستنزف إمكانيات الدولة دون ضمان حلول حاسمة لما يُطرح من إشكاليات بسبب عدم القدرة على التحكم في انتشار الوباء. أما التوجه الثاني فهو يرى أن الاشتغال على اليومي – وإن كان مطلوبا وضروريا يفرضه واقع الأمور- لا يجب أن يُلغي الاشتغال على الأمدين المتوسط والبعيد زمنيا وعلى المستوى الوطني العام مجاليا ضمن استراتيجية تقوم على اقتناص ما توفّره الجائحة من فرص حقيقية لمراجعة عميقة للاختيارات الكبرى في جملة من القطاعات الحيوية ومن ضمنها التربية والتعليم.
2. تُعتَبَرُ ثنائية الآني والاستراتيجي في الاشتغال على الانعكاسات السلبية للجائحة الوبائية في قطاع التربية والتعليم الخاصية التي تطبع سلوك الدول كما الهيئات والمنظمات الأممية المعنية بموضوع التربية والتعليم بالاختصاص مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أو بالتمويل والاسناد مثل مجموعة البنك الدولي. وتتباين قدرة الدول والشعوب على تجاوز ما خلفته الجائحة الوبائية من سلبيات وفقا لتباين القدرة على الاستشراف وتباين الإمكانيات البشرية والمادية المسخّرة للغرض. والواقع أن أولى الخطوات الضرورية في التعاطي مع الموضوع هي رصد هذه التأثيرات السلبية كميا ونوعيا ومجاليا بما يمكن من وضع استراتيجيات تَدخُّل ناجعة في المدى المنظور ووضع خطط عمل مستقبلية تتجاوز التقليل من آثار الجائحة الى تثوير منظومة التربية والتعليم برمتها على الأمدين المتوسط والبعيد. ومن هذه الزاوية تحديدا، فان الجائحة الوبائية تتحوّل إلى فرصة حقيقية وجب اقتناصها لتطوير هذا القطاع الاستراتيجي بعد أن تأكّد أن المنظومة التربوية لما بعد الاستقلال قد استنفذت أغراضها بل وتحوّلت الى عبء حقيقي حيث لا ترتقي مخرجات العملية التربوية – ومنذ سنوات عدة- في مستوى الاستجابة لحاجات المجتمع وانتظاراته الى ما يبذله هذا المجتمع من تضحيات مادية كبيرة.
3. أكّدت تجربة الأشهر الأخيرة من السنة الدراسية المنصرمة والأشهر الأولى من السنة الدراسية الحالية وبصرف النظر عن التفاصيل اليومية والتعثرات والنقائص المسجّلة هنا وهناك أنه ما من "محرّمات" في الاشتغال على الشأن التربوي في الظروف القصوى. فمضامين التعلّم وزمنه ونظام الفصول والتنظيمات الإدارية والجوانب البيداغوجية وما يتعلّق بالتقييم... هي مسائل قابلة للمراجعة والتطوير بعد أن ظلت لفترة طويلة موضوع شد وجذب وجدل لا ينتهي بين مختلف الأطراف المتدخلة في العملية التربوية. كما أكّدت هذه التجربة ثانية إمكانية التقاء كل الفاعلين التربويين عند الضرورة حول حد أدنى مقبول لاشتغال المنظومة التربوية تصوّرا وتنفيذا. والرأي أنّ تجاوز منطق "المحرّمات" من جهة والالتقاء الذي تحقق بين الفاعلين التربويين من جهة ثانية مكسبان جوهريان من الواجب استثمارهما والبناء عليهما لوضع أسس منظومة تربوية جديدة منتمية الى العصر، متخففة من ضاغطات لا مبرّر لها اليوم ومنها أوّلية المعرفة في التعلّم ما أفضى الى كثافة المواد التعليمية وتوقيت التعلّم وإثقال كاهل المتعلّم بواجبات لا حصر لها. ومنها أيضا ضاغطات التقييم الجزائي التي ترتّبت عنها تشوهات نفسية وسلوكية سلبية ما زاد المهنة مشقّة وحوّل المدرسة الى فضاء منفّر...وغير ذلك من الضاغطات - معزّزة بعوامل أخرى مختلفة – أفضت كلّها الى تفشي سلوكات مؤذية للعملية التربوية بين المعلمين والمتعلمين على السواء أبرزها ظاهرة الغش في الامتحانات وظاهرة الدروس الخصوصية. هذا فضلا عن سائر المشاكل والصعوبات التي تتخبط فيها المدرسة العمومية وهي معلومة لدى الجميع وقد زادتها الجائحة الوبائية تعقيدا ولا فائدة من تعدادها.
4. إن نقطة الضوء التي تستحق التدبّر فعلا هي ما أبان عنه سائر المشتغلين بالشأن التربوي من قدرة على ردّ الفعل عامة تجاه ما ترتّب عن الجائحة الوبائية من تداعيات على العملية التعليمية-التعلّمية. صحيح أن ردّ الفعل لم يكن في مجمله منظّما ولم يخضع لدراسة مستفيضة ومسبقة ولم تتهيأ ظروف تنفيذ مقتضياته على الوجه المرجوّ ولكن ذلك لا ينفي كونه إيجابي في حدّ ذاته ويحتاج الى التعزيز والتثمين لكونه يؤشّر على حيوية الفاعلين التربويين من جهة وعلى قدرتهم على إبداع الحلول والتصورات الكفيلة بتجاوز الاختناقات الهيكلية التي تعيشها المدرسة من جهة ثانية كما يؤكّد رغبتهم في تجديد المدرسة العمومية التونسية من جانب آخر. أما الآليات المبتدعة لضمان استمرار العملية التعليمية والمضامين التي تم الاشتغال عليها معارف ومهارات وسلوكات والوسائل والوسائط التي تمّ توظيفها في هذا الامر فهي مسائل قابلة للتطوير. لقد تابعت شخصيا المجهودات المبذولة في مادتي التاريخ والجغرافيا – بحكم التخصّص- من قبل إطار التفقد البيداغوجي وعدد غير قليل من المدرسين الذين انتظموا في مجموعات عمل وتواصل عبر شبكة التواصل الاجتماعي. وشدّ انتباهي حجم انخراط المعلمين والمتعلمين في هذا الجهد وتنوّع المبادرات وثراء المحتويات الرقمية المقترحة في إطار استكمال البرامج والاستعداد للامتحان الوطني وأهمية التفاعل بين المعلمين والمتعلمين ضمن هذه الفضاءات الافتراضية وهي كلها مسائل كانت لزمن قريب شبه مستحيلة التحقق. ففي زمن قياسي، تمّ حلّ الكثير من مشكلات النفاذ الى شبكة الانترنت وانتظم المدرسون في مجموعات عمل وتم توفير محتويات رقمية مناسبة في مجملها للتعلمات المقررة بل وشرع البعض في طرح أسئلة تتعلق بتعلمية المادتين وبالمقاربات البيداغوجية في علاقة بالمحامل الرقمية المعتمدة وبالظروف المستجدة للتعلم (التعلم الحضوري والتعلّم عن بعد). إن هذه الحركية هي في حدّ ذاتها مكسب مهمّ يمكن الانطلاق منه والبناء عليه ذلك أنه يُقيم الدليل على أن المشتغلين بالتربية على وعي تام بالتحديات التي تواجههم ويكشف عن امتلاكهم الإرادة والاستعداد المطلوبين لتحقيق النقلة النوعية المرتقبة في عملية التعليم والتعلم. وبقدر ما كشفت هذه الحركية عن عناصر إيجابية تبعث على التفاؤل وتعزّز الثقة في القدرة على مجابهة التأثيرات السلبية للجائحة الوبائية في ميدان التربية والتعليم، فأنها كشفت جملة من نقاط الضعف لعل أهمّها على الإطلاق الفجوة الرقمية صلب المجتمع التونسي وصلب المجال الوطني وهو معطى مهم يتطلب المعالجة ذلك أن القدرة على النفاذ الى المعلومة عبر الوسائط الحديثة هي حجر الزاوية في منظومة التعليم ما بعد الجائحة.
5. أصبحت الخيارات اليوم في التعاطي مع الشأن التربوي في ظل الجائحة الوبائية واضحة ومحدّدة. فإماّ الانغماس في اليومي التفصيلي والغرق في الأزمة أو تلقُّف الفرصة لتثوير المنظومة التربوية عبر وضع تصوّرات ورؤى وخطط عمل تتعلق بالتربية ما بعد الجائحة ولا تستثني أيا من مكوناتها. وإماّ تطوير المنظومة التربوية العمومية بما يعزّز طابعها الشعبي والإجباري والمجاني والديمقراطي أو فتح الباب على مصراعيه أمام خوصصة التعليم كنتيجة لتعمّق مُحتمل لأزمة المدرسة العمومية وإخفاقاتها. وإما المضيّ قدما في جعل التعليم مدخلا للعدالة والانصاف والحق والحرية أو تحويله بالصمت والإهمال الى آلية لإعادة إنتاج الظلم الاجتماعي والحيف الاقتصادي والتباينات الاجتماعية/المجالية. إن هذه الخيارات لا تطرح في تونس فقط بل هي من صميم اهتمامات القائمين على الشأن التربوي عبر العالم وليس صدفة أن تبعث منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة منذ سنة 2019 "اللجنة الدولية حول مستقبل التربية" وهي لجنة تُعنى بالتفكير في التعليم في ظل الجائحة الوبائية وما بعدها.
لا خيار، فأما أن نستعدّ للعصر التربوي الجديد بما يلزم من الجرأة والإبداع والتعاون والتضحية والامكانيات المادية والبشرية الضرورية ولو بالحد الأدنى أو أن نغرق في الأزمة ونلهث وراء تطوراتها اليومية المتسارعة فننهي بذلك الدور التاريخي للمدرسة العمومية ونقبع على هامش العصر والتاريخ نندب حظنا ونعضّ الأصابع ندما على تفريطنا في فرصة تاريخية لتطوير واقع التربية والتعليم في بلادنا.
------------------
حسين الحامدي
16 أكتوبر 2020