Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
TUNISIE XXI over-blog.com

Histoire moderne et contemporaine, Education, Pédagogie, Actualités politiques et socio-économiques, développement régional et Territorial,témoignage...

حبّا في التربية وتقديرا للمربين ووفاء لكل من علّمني

 

" لا نقول بُخْ يا ابني..."

كانت سنتي السادسة والنهائية من التعليم الابتدائي (1969-1970) وكان السيد علي عباس معلمي في اللغة العربية بمدرسة في إحدى قرى البلد العميق...

***

ما زلت إلى اليوم أعتبر نفسي محظوظا إذ درسني السيد علي عبّاس رحمة الله عليه لا فقط لكونه مدير المدرسة  - ولمديري المدارس في ذلك الزمن اعتبار وأي اعتبار- بل ولكونه مجيدا في دروسه أو هكذا كان يبدو لي الأمر. وسبق أن درّس أخي الأكبر وكان مُحبا لنا إلى أبعد الحدود بسبب تميّزنا في الدراسة رغم ظروفنا المادية الصعبة آنذاك.  والأهم من هذا كله أنه كان شديد الاحترام لوالدي- رحمه الله-  وكثير الفرح بملاقاته. كان سي علي عباس يتعمد ترك مجلس أعيان القرية ويتجه نحو والدي ويستوقفه ويبادله أطراف الحديث وتعلو ضحكاتهما في المكان. ولئن كان والدي ميّالا إلى الصمت وشديد التحفظ في علاقاته الاجتماعية، فأنه كان محدّثا بارعا وفكها متى ارتاح إلى شخص ما. أما ضحكته فلا تنسى، كانت ضحكة صادقة لا تكلّف فيها، دافئة، منعشة تمنح حضوره جمالا أخّاذا... وكان سلوك سي علي عباس تجاهه يثير استغراب الكثيرين على اعتبار أن والدي لم يكن يملك من أسباب الوجاهة بمقاييس ذلك الزمن شيئا بما يبرر هذا السلوك وفقا للمنطق السائد في المجتمع التونسي آنذاك... لكن سي علي عباس كان يحمل تقديرا خاصا للكادحين الشرفاء ولا يتردّد في إظهار هذا التقدير كلما سنحت سانحة... كان ذلك حاله مع والدي كلما يسّرت الظروف لقاءهما. وإني أعترف اليوم أن أحد أسرار محبتي لسيدي علي عباس هو ما كان يظهره من احترام وتبجيل حقيقيين لوالدي، ذلك الانسان البسيط، الكادح بشرف وأمانة ...شأنه شأن مئات الآلاف من التونسيين في ذلك الزمن الصعب.

***

لا زلت أذكر دروس سي علي عباس في النحو الصرف وأذكر قراءته للنصوص الأدبية وتلاوته للشعر ... وحكاياته عن الكلدانيين والسومريين والآشوريين في درس التاريخ.... باختصار، كان أعجوبة. تحب اللغة العربية- وكان لا يتكلّم الا الفصحى - لكيفية نطقه وقدرته على التعبير وجمعه بين التبليغ بالكلمة وبالحركة وبالملامح...كنت مبجلا عنده يعاملني بشكل خاص فيه الكثير من المحبة.... وذات يوم وقد انتهينا من اختبار دراسة النص وجرى تمرير أوراق الاختبار من الطاولة الأخيرة إلى الطاولة الأولى في الصف الذي كنت أجلس فيه، أخذ جليسي ورقة أحد زملائنا - أطال الله عمره- وهو متواضع الامكانيات، ليطلع على ما أنجز في الاختبار وتوقف عند شرح المفردات: " الياقة" وكان جواب زميلنا ذاك: " الحسن والجمال" / "أنامله" وكان الجواب" أسنانه"...وما إن قرأ جليسي الإجابتين حتى انفجر ضاحكا وأسرّ لي بالأمر: "أنظر ما كتب فلان...". ومن غريب جليسي هذا أنه كان يعمد إلى وضع إحدى يديه داخل فمه (هكذا) حتى لا يُسْمَع ضحكه فلا يتفطن إلى أمره إلا من كان خبيرا بأسلوبه ذاك. لم أتمالك نفسي بدوري وانخرطت في الضحك وحاولت تقليد جليسي لإخفاء الأمر ولم أفلح إذ أصدرت صوتا لفت انتباه المدير ...وما عكّر الموقف أن زميلنا إياه - سامحه الله- خاطب المدير رأسا في وشاية علنية ومباشرة “سيدي ...سيدي ...ح. و س. يضحكو عليّ...". فالتفت إلينا، أهمل زميلي وناداني بالاسم قائلا: “لا نقول بُخْ يا ابني..." هكذا بالحرف الواحد و"بخ" هذه هي الصوت الذي أصدرته وأنا أحاول الزج بيدي في فمي لإخفاء ضحكي أسوة بزميلي...  وما إن وصلت إليه حتى وضع رأسي بين ركبتيه وانهال عليّ ضربا...وكأن ما قام به لم يشف غليله فأخذ الطلاسة وهي مصنوعة من الخشب وضربني بواسطتها على قفا اليد مرات متتالية.... لا شك في أن الضرب كان مؤلما في صيغتيه وكان أشد إيلاما وهو يتم أمام زملائي، ولكن لا بكاء ولا شكوى ولا إظهار للألم.... ضربني حتى اكتفى ولم أعد إلى مكاني إلا عندما طلب مني ذلك. أذكر أني لازمت مكاني بهدوء تام حدّ الإزعاج. كنت أتألم ولكن بصمت وكبرياء. وانتهت الحصة تعيسة، بائسة، كئيبة وقد خيم عليها صمت مقرف...

كانت تلك المرة الثانية التي أتلقّى فيها الضّرب من قبل معلّم طيلة دراستي الابتدائية...

***

في الأيام الموالية، صبّ سي علي عباس جام غضبه على جليسي، بل ومنعه من الجلوس إلى جانبي. رأيت في سلوكه محاولة لإصلاح ما انكسر خاصة وأنني قاطعت المشاركة في الدرس إذ كنت أكتفي بالحضور والإنصات وأتعمد الإشاحة  عنه بوجهي. وفي ظرف أيام معدودات أعادني إلى مناخ الدرس بأسلوب فيه الكثير من اللطف هو " اعتذار" موارب وكم كان يفرح بانخراطي في الدرس. كان يتعمد الإكثار من تلاوة الأشعار لعلمه بشغفي بالشعر ويسهب في دروس التاريخ لعلمه بولعي بها ... يحترم صمتي ولكنه يدعوني إلى التدخّل عندما يعجز زملائي عن تقديم الإجابة ويبالغ في الثناء علي ّويعدد خصالي الحقيقية والوهمية ....

***

رحم الله سي علي عباس. ما زلت أذكره إلى اليوم بتأثر حقيقي في هيأته وفي حركته وفي حديثه وأحمل له محبة حقيقية، صادقة وأحدّث عنه أبنائي  بفخر واعتزازكلما دار بيننا حديث حول دراستي الابتدائية.

Partager cet article
Repost0
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article