Histoire moderne et contemporaine, Education, Pédagogie, Actualités politiques et socio-économiques, développement régional et Territorial,témoignage...
2 Octobre 2019
مدخل
ارتقت معالجة المنظومة التربوية إلى درجة الأولوية الوطنية المطلقة وصارت قناعة راسخة تحوز على توافق كل الأطراف المعنية بهذا الشأن. وبعد أن كان الجدل يدور حول ضرورة هذا التدخل والتعجيل به، أصبح اليوم يتعلق بالمداخل والآليات والأولويات والآجال ومجالات التدخل وطبيعة الأطراف المتدخلة والأدوار الموكولة إليها. ولئن تم الحسم إلى هذا الحد أو ذاك في بعض هذه المسائل، فإن البعض الآخر منها يحتاج إلى مزيد الدرس والتعمق.
ومن أبرز هذه القضايا التي ستظل محلّ جدل: طبيعة أزمة المنظومة التربوية بعيدا عن التقييمات المزاجية والانطباعية، فهل هذه الأزمة هي من أزمة المجتمع عامة أم مجرد خلل في آليات اشتغال المؤسسة التربوية برامج ومقاربات بيداغوجية ونظام تقييم وتنظيمات إدارية وبنية تحتية وتجهيزات؟ هل ترتبط بخلل هيكلي أم بإخلالات ظرفية؟
واستتباعا، فهل المطلوب هو إصلاح تدريجي للمنظومة التربوية يأتي على التفاصيل " الفنية" أم مقاربة شاملة لموضوعة التربية تستهدف إصلاحا شاملا /إعادة بناء كلية وتندرج ضمن مشروع وطني شامل للتنمية في أبعاده الرئيسية سياسة واقتصادا وموارد بشرية؟ وفي هذه الحالة الثانية: أي رسالة نريد للمدرسة التونسية؟ وأي نموذج نريد لهذه المدرسة؟
واستتباعا، ثانية، أي مدخل للإصلاح / إعادة البناء؟ وفي هذا الباب يلاحظ كل متابع للجدل الدائر حول المسألة التربوية تركيزا مفرطا على التفاصيل الفنية التي هي من صميم اختصاص الخبراء بما يوحي بأن أزمة المنظومة التربوية هي أزمة اشتغال في المسائل الإجرائية والفنية مثل البرامج والزمن المدرسي ونظام التقييم والبنية التحتية والتجهيزات وتدبر الشأن التربوي اليومي عامة. وبالمقابل، تغيب إلى هذا الحد أو ذاك مسألة التباينات الاجتماعية / المجالية في مقاربة هذا الشأن رغم حديث محتشم عن اللامركزية في تدبير الشأن التربوي من زاوية النجاعة المتوقعة لا من زاوية الإنصاف والعدالة بين المتعلمين كمطمح يندرج ضمن المطمح الوطني الأكبر في الشراكة العادلة والكاملة في الوطن سلطة وثروة وتنمية، ولعل هذا التمشي هو الذي يفسر غياب موضوعة " الأقلمة" – رغم وجاهتها - في تدبير الشأن التربوي عن الجدل الدائر حاليا.
ومن هذه الزاوية تحديدا، تكتسب المقاربة الاجتماعية / المجالية كمدخل للاشتغال على حوكمة الشأن التربوي وجاهتها وبذلك تكون " الأقلمة" (Régionalisation) – أي إقرار اللامركزية في تدبير الشأن التربوي من خلال تشكيل أقاليم تربوية كبرى- واحدة من الحلول المطلوبة والممكنة ويكون الاشتغال على " الخارطة التربوية" أداتها الأساسية.
تقترح هذه الورقة النظر في طبيعة الأزمة الراهنة للمنظومة التربوية بالتركيز على مدخلاتها ومخرجاتها استنادا إلى أحدث التقارير التي وضعتها مصالح وزارة التربية في الغرض بالتعاون مع منظمات أممية وهيئات مختصة، وتناقش الخيارين المطروحين: إصلاح المنظومة أم إعادة بنائها؟ وتعرض البعد الاجتماعي / المجالي كمدخل للاشتغال على المنظومة التربوية وتنتهي بطرح خيار " الأقلمة" كحلّ أداته الرئيسية هي " الخارطة التربوية". وقد تم الاستئناس بثلاثة مراجع حديثة ومهمة في كل ما يتعلق بتشخيص الواقع التربوي من الزاوية الاجتماعية/ المجالية وهي: التقرير الوطني للتربية لسنة 2014 والتقرير الوطني حول التربية للجميع في أفق 2015 والتقرير الوطني حول الأطفال غير المتمدرسين، أكتوبر 2014 (باللغة الفرنسية).
. في بعض أوجه الأزمة الراهنة للمنظومة التربوية I
تتجلى أزمة المنظومة التربوية من خلال مؤشرات كمية وأخرى نوعية. ولعل أهمها ما يتعلق باهتراء البنية التحتية للفضاءات التربوية ونقص التجهيزات الأساسية والنقص الملموس في الوسائل التعليمية والرسوب والانقطاع المدرسيين وضعف المستوى العام للمتعلمين وضعف القدرة على الإعداد للحياة الاجتماعية والمهنية والمركزية المفرطة في التسيير وفي تدبير الشأن التربوي عامة، وقبل ذلك كله وبعده اهتزاز المكانة الاعتبارية للمدرسة والمربي.
- اهتراء البنية التحتية للفضاءات التربوية: لئن كانت الظاهرة عامة يشهد عليها البرنامج المستعجل الذي وضعته وزارة التربية للتدخل بالتعهد والصيانة في 634 مؤسسة تربوية ابتدائية ، فإنها أكثر حضورا في المجالات الحضرية الساحلية ، تلك التي شهدت تركزا مبكرا للظاهرة التربوية إذ تعود بعض المؤسسات إلى ما قبل الحقبة الاستعمارية والحقبة الاستعمارية وبواكير الستينات من القرن الماضي، أما في المجالات الداخلية والطرفية عموما فإن حالة الاهتراء محدودة لحداثة المنشآت التربوية عامة ، يستثنى من ذلك عدد من المدارس الابتدائية في هذه الجهات والتي يعود بناء البعض منها إلى ستينات القرن الماضي بمجهود شعبي عاضد جهد الدولة في تلك الحقبة.
- نقص التجهيزات الأساسية وعنوانه الأبرز واللافت للانتباه هو نقص تزويد مئات المدارس الابتدائية بالماء الصالح للشرب تحديدا في المجالات الداخلية الطرفية وما ينجرّ عنه من تبعات تتعلق بشروط صحة المعلمين والمتعلمين، فضلا عن نقص في الربط بالشبكة الكهربائية وشبكة الانترنت مما يفضي إلى حرمان قطاع واسع من المتعلمين من الاستفادة من تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التعلم. إن هذا النقص – مضاف إليه تقادم الوسائل التعليمية أو غيابها أو غياب فضاءات حفظها...- وتركزه في مجالات مخصوصة يضرب في الصميم ديمقراطية التعليم ومبدأ الإنصاف في العملية التربوية إذ يفضي إلى تفاوت الفرص في التكوين وفي التحصيل.
- الرسوب والانقطاع المدرسيين: يعتبر هذا المؤشر مهما للغاية في علاقة بما تبذله المجموعة الوطنية من تضحيات مادية حقيقية للنهوض بالشأن التربوي عامة يشهد على ذلك التنامي المتسارع لكلفة التلميذ الواحد. ولا تزال نسب الرسوب والانقطاع لافتة للانتباه وهو ما يؤكد وجود أسباب هيكلية تقف وراء تواصلها، علاوة عن تفاقمها في السنوات الأخيرة التي التقى فيها الهيكلي بالظرفي فأفرز نسبا تثير الانشغال. وفضلا عن استمرار ظاهرتي الرسوب والانقطاع المدرسيين، فإن توزعهما المجالي يؤكد مرة أخرى غياب مبدأ الإنصاف والعدالة ذلك أن نسبة الرسوب مثلا ترتفع بشكل ملحوظ في المجالات الطرفية عامة.
- ضعف المستوى العام للمتعلمين وضعف القدرة على التأهيل للحياة الاجتماعية والمهنية، فبالرغم من وجاهة الشعارات المرفوعة حول جعل " المتعلم محور العملية التربوية" وحول "التجديد" في المقاربات البيداغوجية والوسائل التعليمية ... ما انفك ضعف تملك اللغات مثلا يتفاقم سنة بعد أخرى، وهو لا يقتصر فقط على اللغات الأجنبية بل شمل كذلك اللغة الأم، وهو ثانية ضعف لا يقتصر على القدرة على التعبير والتحرير بل أصبح يشمل وبشكل متزايد القدرة على الفهم ، ما أفضى إلى انحدار عام في مستوى المتعلمين وتشهد على ذلك مختلف التقييمات الدولية لمكتسبات التلاميذ التي شاركت فيها تونس رغم بعض التحفظ على مضامينها وآلياتها وما أفضت إليه من استنتاجات...كما أن اهتزاز العلاقة بين التعليم والتشغيل وبصورة أعم ضعف القدرة على تهيئة المتعلمين للحياة الاجتماعية أفضى إلى حصول شرخ في علاقة المتعلم بالمدرسة وبالمجتمع و ولد هذا الأمر ظواهر غريبة عن الوسط التربوي هي أقرب إلى الانحراف. وإجمالا أفقد هذا الوضع المؤسسة التربوية بريقها وجاذبيتها وما حظيت به طيلة عقود من احترام وتبجيل لكونها قاطرة المجتمع نحو الحداثة وسبيل الترقي الاجتماعي للآلاف من التونسيين.
وهكذا سجّلت المنظومة التّربوية تراكم جملة من المشاكل ظل مسكوتا عنها لردح من الزمن حتى تفاقمت وارتقت إلى درجة المعضلة، وأضحت هي نفسها مولدة لسلسلة من المشاكل الجانبية ذات التأثير السلبي على العملية التربوية مثل تفاقم العنف اللفظي والمادي داخل المؤسسة التربوية وتعرضها للاعتداءات بالسرقة والتخريب وتراجع المكانة الاعتبارية للتربية والمربين عامة. والثابت أن الثقة في المؤسسة التربوية العمومية قد اهتزت فعلا.
- أزمة في تدبير الشأن التربوي عنوانها الرئيسي المركزية المفرطة: لقد اتسم التعاطي مع الشأن التربوي – ولا يزال رغم صدور الأمر المنظم للمندوبات الجهوية للتربية منذ سنة 2010- بالمركزية المفرطة. ولئن كان للمقاربة المركزية في التسيير ما يبررها – إلى هذا الحد أو ذاك - بالنسبة للدولة الفتية : توحيد التعليم وتعميمه وتصفية الإرث التربوي الاستعماري و صون " الوحدة القومية " و صهر ذلك " الغبار من الأفراد" في بوتقة واحدة هي " الأمة التونسية" ...فإن التشبث بهذه المقاربة اليوم لا مبرر له ذلك أن المركزية في التسيير هي تغييب لتنوع الواقع التربوي وضرب للمبادرة الفردية وحدّ من القدرة على المعالجات الصائبة والهادفة القائمة على خصوصيات الواقع التربوي في الجهة خاصة وأن وحدة التونسيين ثابتة وهي حصيلة قرون من العيش المشترك، وقد صمدت في وجه كل الغزاة. وهكذا يتضح أن المركزية في تدبير الشأن التربوي كانت تخضع لهاجس " السيطرة والتحكم " أكثر مما تخضع لاعتبارات تربوية محضة، وإن في تغير الواقع الوطني لما بعد 17 ديسمبر 2010 ما يبرر التخلي عن الخيار المركزي في التسيير وهو ما أكده دستور 27 جانفي 2014.
إن هذا الجرد في مظاهر الأزمة الراهنة للمنظومة التربوية لا يدعي الإحاطة بكل مواطن الوهن فيها، ذلك أن المسألة في منتهى التعقيد، وكان اختيارا مقصودا أن يتم التأكيد على المفاصل الكبرى بدل التدقيق في التفاصيل التي تجر حتما إلى جوانب فنية. ولكن غير المعلن في هذا الجرد هو أن أزمة المنظومة التربوية هي من أزمة البلاد عامة في التعاطي مع معضلات السلطة والثروة والتنمية على مدى العقود السابقة وهي ذات المعضلات التي طرحتها الثورة عامة.
. إصلاح أم إعادة بناء؟II
هذا هو أحد الأسئلة المركزية الذي لا تقدّم في المسألة التربوية دون الإجابة عليه.
هل يعني تجديد المنظومة التربوية نسف المنظومة القديمة وتعويضها بمنظومة جديدة تماما أم أنه يعني تشخيص مواطن الوهن في المنظومة القائمة ووضع خطة وطنية لإصلاحها؟
تتجاذب الموقف من المنظومة التربوية رؤيتان:
- رؤية تقرّ بمكاسب المنظومة التربوية الوطنية ولا تنكر في الوقت نفسه ما دبّ إليها من قصور ووهن وتدعو إلى تثمين المكاسب التربوية والبناء عليها ومعالجة ما أصاب هذه المنظومة من ضعف.
- ورؤية ثانية ترفض المنظومة الحالية بكليتها وتعتبرها " شرا محضا " ولا ترى فيها إلا فشلا وإخفاقا.
لكن التيار الذي يجرّم هذه المنظومة ويحمّلها مسؤولية ما يشهده الواقع التربوي من ظواهر سلبية تشمل التنظيم والتسيير والتعلمات والتقييم... ويقول بالقطع معها يحظى بالجاذبية وبالكثير من المناصرين و"المنظّرين" ما يعكس استعدادا نفسيا وذهنيا للقبول به... والحال أن مثل هذا القول يستحق المناقشة الجادة والمتأنية إن لم يكن مرفوضا أصلا.
فما مدى وجاهة تحميل المنظومة التربوية وحدها ودون سواها الهنات الحالية للواقع التربوي في البلاد ؟ أليست هذه المنظومة محكومة بشرطي الزمان والمكان؟ أليست منتجا اجتماعيا يعكس واقع الوعي الجمعي بالأولويات الوطنية؟ وإذا أقررنا بأزمتها، أليست هذه الأزمة من أزمة المجتمع والبلاد عامة؟
إنّ القول بنسف المنظومة التربوية فيه تنكر لجهد أجيال من المربين على اختلاف أصنافهم ومسؤولياتهم ممن اجتهدوا على مر العقود في نشر نور المعرفة في البلاد والولوج بها إلى الحداثة وتيسير الترقية الاجتماعية لأعداد كبيرة من التونسيين في كل أرجاء الوطن ...إن في هذا القول إنكارا لأفضل ما أنتج التونسيون طيلة نصف قرن من الكدح والبذل والمعاناة.
إصلاح أم إعادة بناء؟
إن ما هو منتظر لا يمكن أن يكون إلا إصلاحا يمثل التجديد في أوسع معانيه عصبه الرئيسي وفكرته الناظمة:
. في وجاهة المدخل الاجتماعي / المجالي لإصلاح المنظومة التربويةIII
تعتبر التباينات الاجتماعية / المجالية في تونس بين مجال مركزي هو المنطقة الساحلية الشرقية ومجال طرفي هو البلد العميق الممتد غربا من الشمال إلى الجنوب حقيقة تثبتها كل الدراسات العلمية والمؤشرات الكمية والنوعية للتنمية في وجهيها البشري والاقتصادي. بل إن البعض - وفي سياق الجدل الذي قام حول أسباب الثورة – يعتبرهذه التباينات الاجتماعية/المجالية المحرك الأساسي لما جرى بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. وإذا كانت آثار هذه التباينات الاجتماعية / المجالية بارزة في تفاوت المشاركة في الحياة السياسية وفي تفاوت الاستفادة من الثروة ومن ثمار التنمية بين الفئات الاجتماعية والجهات، فإنها بارزة أيضا في الميدان التربوي سواء تعلق الأمر بالبنية التحتية أو التجهيزات والوسائل التعليمية أو الموارد البشرية أو القدرة على النفاذ إلى الانترنت أو في نسب الرسوب والانقطاع أو في التفاوت الجلي في نسب النجاح في الامتحانات الوطنية بين مجالين: واحد مركزي يمتد على المناطق الساحلية وآخر طرفي يشمل البلد العميق إجمالا. وما من شك في تعدد مستويات التباين والتفاوت فهي ملحوظة في المجال المركزي وفي المجال الطرفي متى ما عمدنا إلى توسيع وتنويع مقاييس التحليل والدراسة. وما من حاجة إلى نقل المعطيات الكمية الدالة على هذه التباينات في هذه الورقة إذ يكفي النظر في المراجع الثلاث التي أشرنا إليها في المدخل حتى ندرك أن هذه التباينات في الميدان التربوي حقيقية وليست من وحي الخيال وحتى ندرك ثانية أن هذه التباينات ليست فقط كمية بل هي نوعية كذلك.
والمقصود باعتماد المدخل الاجتماعي / المجالي هو مقاربة إصلاح المنظومة التربوية من زاوية تلك التباينات التي تشق المجتمع والمجال الوطني في إطار رؤية شاملة وغاية ذلك أن ينبني كل جهد إصلاحي للمنظومة التربوية على المعطيات الموضوعية الحافة بعملية التعلم بما فيها من تنوع واختلاف وتباين. وهكذا يكون هذا المدخل قطعا مع المنطق الذي حكم التصرف في الشأن التربوي لعقود، وهو ذلك المنطق الذي اعتبرناه قائما على " السيطرة والتحكم" أكثر مما هو قائم على احترام الخصوصيات الحافة بالعملية التربوية في تعددها وفي تنوعها. وهو مدخل يجعل من التنوع والتعدد فرصة إضافية لتحقيق الجدوى والنجاعة بعد أن ظل لردح طويل من الزمن ينظر إليه كخطر يهدد " الوحدة القومية". وهو علاوة عما تقدم يعلي الشعور بالانتماء ويضمن لسائر التدخلات الهادفة إلى المعالجة والتعديل النجاعة المطلوبة ذلك أن هذه التدخلات ترتبط بحاجات مخصوصة يفرضها واقع اقتصادي – اجتماعي مخصوص، وهو بعد هذا كله يعلي قيمة المواطنة وينسجم تماما مع الاستحقاقات التي فرضتها الثورة.
وبذلك يصبح إصلاح المنظومة التربوية معالجة لخلل هيكلي لا اشتغالا على استحقاقات ظرفية.
IV. "الأقلمة" كحل والخارطة التربوية كأداة
خصص دستور 27 جانفي 2014 بابا كاملا للسلطة المحلية هو الباب السابع. ويشير في الفصل 131 إلى اللامركزية والجهات والأقاليم وهو يوفر بذلك المرجعية القانونية لمراجعة التنظيم المجالي للشأن التربوي ويفتح الباب أمام مراجعة الخارطة التربوية وفقا لمبدأ اللامركزية.
ظل المجال التربوي محكوما في تنظيمه وبنيته بهاجس " السيطرة والتحكم " طيلة العقود الماضية، بدليل التطابق التام بين الخارطة التربوية والخارطة الإدارية. ومعلوم أن التقسيم الحالي إلى مندوبيات جهوية للتربية هو في الواقع إعادة إنتاج للتقسيم الإداري – الأمني للبلاد، ذلك أن مجال المندوبية هو مجال الولاية لا غير.
والواقع أن السياق الوطني الجديد يفرض التوجه إلى " الأقلمة " في التدبير العام للشأن التربوي. و المقصود بالأقلمة اعتماد اللامركزية في تدبير الشأن التربوي من خلال بعث أقاليم تربوية كبرى تتمتع بهامش كبير من الاستقلالية في تنظيم العملية التربوية في أبعادها البيداغوجية والإدارية والمادية وفي الموارد البشرية. وهو ما يعني ترحيل جزء من صلاحيات الإدارة المركزية إلى الإدارة الإقليمية.
ما هي المزايا المنتظرة لهذا التنظيم المجالي للشأن التربوي؟
يمكن هذا التنظيم من:
وتمثل الخارطة التربوية الأداة الرئيسية لوضع هذا التصور موضع التنفيذ على أن يخضع تحديد مجالات الأقاليم لمعايير دقيقة تأخذ بعين الاعتبار التباينات الاجتماعية / المجالية في المجال التربوي الحالي.
يتم تحديد مجالات الأقاليم التربوية باعتماد المعايير التالية:
وفي كل الأحوال لا يجب أن يتطابق الإقليم التربوي مع الولاية (التقسيم الإداري)، ذلك أن الإقليم قد يضم عدة ولايات.
وفي مستوى ثان، يتم تقسيم الإقليم التربوي إلى " دوائر تربوية" وفق نفس المعايير تفرد بإدارات فرعية تتمتع بدورها بدرجة من الاستقلالية عن إدارة الإقليم في تدبير الشأن التربوي المحلي وفق آليات يتم الاتفاق في شأنها وتثبيتها بنصوص قانونية.
وتبقى جملة من الأسئلة قائمة: هل يمكن تبني " الأقلمة" في التربية في إطار منظومة عامة يحكمها خيار مركزية القرار السياسي والاقتصادي...؟ ما هي حدود هذه " الأقلمة" في الميدان التربوي؟ ما هي الصلاحيات التي سيتم ترحيلها من المركز إلى الإقليم؟ وما طبيعة العلاقة بين السلطة التربوية الإقليمية والسلطة المنتخبة في الإقليم؟
الثابت أن ما من سبيل لنجاح خيار اللامركزية في تدبير الشأن التربوي إذا لم تكن اللامركزية اختيارا وطنيا في تدبير الشأن العام بمختلف أبعاده التنموية، والثابت ثانية أن من شروط نجاح هذا الخيار في التربية هو أن لا يقتصر على مسائل الإدارة والتسيير بل لا بد أن يشمل البعد البيداغوجي ولكن بما لا يضرّ بوحدة المخرجات ، أما الحجة القائلة بأن اللامركزية في الشأن التربوي تدبيرا وتعلمات قد تفضي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي الوطني فهي حجة واهية ذلك أن عناصر التجانس الاجتماعي والثقافي في تونس تكاد تكون مثالية. أما في ما يتعلق بتقاسم الصلاحيات، فإن المركز يستأثر بوضع السياسة التربوية وضبط التعلمات ونظم التقييم والإشهاد وانتداب إطار التدريس والتأطير كما يمارس مختلف أنواع الرقابة على الإقليم.
وفي المقابل، يتمتع الإقليم بالاستقلالية في التصرف في الموارد المالية وفي تعديل الخارطة التربوية وفي اتخاذ إجراءات ذات بعد بيداغوجي تراعي خصوصيات الإقليم في ما يتعلق بالزمن المدرسي ومسالك وشعب التوجيه المدرسي وجزء من التعلمات بالتوافق مع السلطة الإقليمية المنتخبة.
خاتمة
لا تمثل الدعوة إلى "الأقلمة " في تدبير الشأن التربوي أمرا جديدا، ذلك أن هذا التوجه يعود إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي في عدد من بلدان العالم ولا يمثل بدعة.
ما من شك في أن هذه المقاربة لا تمثل الحل السحري والأوحد لمعضلات المنظومة التربوية، ولكن مزيتها أنها تتفق والسياق الوطني الجديد من جهة، وتمثل قطعا مع آليات اشتغال أفضت إلى الأزمة الحالية في الميدان التربوي. كما أنها تفتح الباب أمام مدرسة تضمن تكافؤ الفرص بين سائر المستفيدين من الخدمات التربوية وفي كل أرجاء الوطن. وهي كذلك فرصة لانتشال التعليم العمومي والمؤسسة التربوية العمومية مما علق بهما من وهن وضعف ما فتح الباب أمام التنامي المتسارع للمؤسسات التربوية الخاصة التي تسهم في تأبيد التفاوت الاجتماعي. ومن مزاياها أيضا إرساء مبدإ الشراكة والعمل التعاوني في كل ما يتعلق بالشأن التربوي.
حسين الحامدي
متفقد عام خبير في التربية ( تاريخ وجغرافيا)
---------------