مضت سنة على اندلاع ثورات ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، وبقدر ما كانت هذه السلسلة من الثورات حاملة في بداياتها لآمال عريضة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فإنها أصبحت اليوم مصدر انشغال عميق لدى القوى القائمة عليها وطلائعها بالنظر إلى ما أفضت إليه من مشهد سياسي لا يشبه في شيء ما كان يحلم به الثائرون وما حملته شعاراتهم من تطلعات وطموحات. ولئن اتسمت هذه الثورات عند انطلاقها بطابعها الجماهيري، العفوي والسلمي، فإن بعضها تحوّل مع الزمن إلى صراع دموي صحبه دمار غير مسبوق للبنى التحتية واستثارة غير مسبوقة لتناقضات ظلت لزمن طويل ثانوية خاصة ما يتعلق منها بالبني الطائفية سواء كانت عرقية أم مذهبية دينية في أقطار مثل مصر وسوريا وبدرجة أقل في ليبيا، كما فتحت في بلد مثل تونس على قضايا لم يخطر على بال التونسيين يوما أن ترقى إلى درجة القضايا الجوهرية فصارت "اللحية والقميص وختان الإناث والنقاب" من المسائل التي فرضت فرضا على المواطن بدل قضايا المنظومة السياسية والمنوال التنموي ومحاسبة قتلة الشهداء ومجابهة البطالة ومقاومة الفساد وصون الحريات الفردية والعامة.
لقد أفضى تآمر أطراف دولية وقوى داخلية إلى الانزياح بالثورات العربية عن أهدافها الأصيلة. لقد التقت – في غفلة من الثائرين- مصالح قوى داخلية وأخرى خارجية في وضع سقف محدد لهذه الثورات يقضي بمنع اكتمالها بما يؤسس لسلطة شعبية تتبنى مطالب الثائرين وتترجمها إلى برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي قوامه الشراكة العادلة في الوطن من خلال الحق في السلطة والثروة كشرط رئيسي لتحقق السيادة الوطنية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لقد لعبت القوى الامبريالية العالمية دورا خفيا حينا ومعلنا أحيانا أخرى في تحويل وجهة هذه الثورات والسطو عليها ... وأسهمت بأساليب شتى في مصادرة الحلم العربي في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مفتتحة بذلك دورة جديدة في تاريخ العرب بالشراكة مع وكلاء جدد، القوى الرجعية المعادية للحداثة وقيم العصر: هل من الصدفة أن يستلم "الإسلاميون" السلطة في كل الأقطار العربية التي شهدت هذه الثورات وحتى في تلك التي بادرت بإدخال إصلاحات على منظوماتها السياسية لتجنب العاصفة مثل المغرب؟(1) إن هذا الواقع المستجد يثير تساؤلات حقيقية حول ما آلت إليه هذه الثورات وحول الأطراف التي أسهمت في نحت ملامح هذا الواقع السياسي الجديد.
لقد ظل دور الامبريالية العالمية في ما جرى في بلدان الربيع العربي بعيدا عن التداول لفترة طويلة، فما هي العوامل التي تحكمت في هذا الدور لتفضي إلى ما أفضت إليه من مشهد سياسي بائس لا يشبه في شيء ما حلم به الثائرون؟
1- نهاية دور نخبة الاستقلال وبروز الوكلاء الجدد
كان واضحا منذ الربع الأخير من القرن العشرين أن دولة الاستقلال – في الأقطار العربية وفي العالم النامي عامة- قد ولّى زمنها واستنفذت الدور الموكول إليها من قبل القوى الامبريالية العالمية التي أسهمت في تركيز أسسها وإقامة بنيانها. لقد تحوّلت هذه الدولة ونخبها مع مرّ الزمن إلى عبء على مسانديها لا يمكن تحمّله إذ أصبحت في عشريات وجيزة عنوانا للاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والحيف الاقتصادي وأصبحت محلّ معارضة داخلية ما انفكت تتسع وتتجذّر جامعة طيفا واسعا من المعارضين. لقد أفقدتها هذه السمات أسباب ديمومتها وأسباب ديمومة نخبها الحاكمة والمفكّرة إذ لم تعد قادرة على إسداء الخدمات المطلوبة من قبل الدوائر الامبريالية على الوجه الذي يحفظ مصالح هذه الدوائر دون صدام مع الشعوب، بل إن نقمة الشعوب جمعت إلى النقمة على نخبها المستبدة، النقمة على من يقف وراءها ويوفر لها المدد المادي والمبررات الأيديولوجية لاستمرار التسلط والاضطهاد.
وكان لا بد من دورة تاريخية جديدة بقيادة وكلاء جدد يحضون ببعض المصداقية.
2- فشل «النموذج الصيني»: الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي
لم يعد هذا النموذج القائم على مقايضة الحريات الفردية والعامة بالنمو الاقتصادي قابلا للاستمرار. ولئن نجح هذا النموذج بالصمود في الصين الشعبية لاعتبارات تتصل بنمو اقتصادي غير مسبوق وتحسن جلي في مؤشرات التنمية البشرية ولاعتبارات استراتيجية في علاقة بالصراع الدولي الدائر حول الثروات المنجمية والطاقية والأسواق، فإن حظوظ استمراره في البلدان الأخرى أصبحت منعدمة في ظل بروز نخب جديدة مدنية ونقابية وفكرية ترفض أساسا هذه المقايضة الظالمة. لقد تأكّد مع مرّ الزمن أن تحرير الحياة الاقتصادية والانخراط في العولمة بما يعنيه من انفتاح على الاستثمار المباشر الأجنبي وفتح السوق الداخلية أمام أدفاق السلع والخدمات لا يمكن أن يستمرّ في ظل الانغلاق السياسي ومصادرة الحريات.
لقد أفضت الاختيارات الاقتصادية القائمة على الانفتاح الاقتصادي والانخراط في العولمة إلى تعمق التباينات الاجتماعية والمجالية وزادت العولمة الفقراء فقرا والأثرياء ثراء كما زادت المجالات المهمّشة تهميشا وخلقت شريحة اجتماعية جديدة ما انفكت قاعدتها تتسع هي شريحة المهمّشين الذين عجز المنوال التنموي المتخارج على استيعابهم في الدورة الاقتصادية رغم ما يمتلكون من مؤهلات علمية ذلك أن قسما مهما منهم من حملة الشهائد العليا.
ولقد أفضى هذا التهميش المزدوج: تهميش اجتماعي/طبقي وتهميش اجتماعي / مجالي إلى ازدياد الحاجة إلى التعبير السياسي والفكري الحر كسبيل لمواجهة واقع البطالة والإقصاء والتهميش. وهكذا تعمقت المفارقة بين مجتمع يتسم بالدينامية من جهة وبين حياة سياسية وفكرية تتسم بالجمود والأحادية من جهة ثانية. واعتبارا لكون اقتصاد السوق والتبادل الحرّ هما عنوان المرحلة التاريخية في المستوى الاقتصادي وفقا للمنظور الامبريالي ، أدركت الدوائر الامبريالية أن ضمان مصالحها الحيوية في الأسواق وفي اليد العاملة الزهيدة وفي التزود بالمواد المنجمية والطاقية أصبح مهددا في ظل جمود النخب التقليدية، وأن هذه المصالح لا يمكن أن تظل رهينة هذه النخب، وأنه من الضروري تحقيق انفتاح سياسي بدرجة معقولة بصفة موازية للانفتاح الاقتصادي في هذه الأقطار. وهكذا يضمن هذا التمشي لفقراء العالم ومهمّشيه الحق في "الصراخ" والاحتجاج .. بدل الاستمرار في الكبت الذي قد ينتهي إلى نسف هذه المصالح بالكامل.
3- نظرية «الانصهار والانشطار» في خدمة المنوال «النيوليبرالي»
برزت هذه النظرية في الربع الأخير من القرن العشرين(2) ولم تحظ بالكثير من الاهتمام رغم وجاهتها في فهم استراتيجيات القوى الامبريالية العالمية: انصهار يزيد الأقوياء قوة عبر توسيع الأسس المجالية والبشرية لقوتهم وانشطار يضعف الكيانات التي بدأ يتآكلها الضعف لأسباب مختلفة...لقد شكل الاتحاد السوفييتي السابق أبرز ضحايا هذه الاستراتيجية الخبيثة فلقد جرى تفكيكه إلى دويلات عديدة سرعان ما التحق بعضها بمنظمة حلف شمال الأطلسي وبالاتحاد الأوروبي وهكذا تراجع عن منزلة القوة العالمية العظمى ما أفضى إلى اختلال التوازن في العلاقات الدولية وعزّز هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أوحد ....كما شكلت يوغسلافيا السابقة مثالا آخر على تطبيق هذه النظرية، فلقد انشطر هذا البلد الذي تشكل في خضم نضال تاريخي وبطولي ضد النازية إلى دويلات عديدة - لاعتبارات قومية وإيديولوجية في الظاهر- سرعان ما انصهرت وفي زمن قياسي ضمن الاتحاد الأوروبي في إطار التوسيع الخامس(3) بمباركة الولايات المتحدة الأمريكية.
وهكذا تعزز صفّ العالم "الحر" بعدد من الدويلات دون كلفة تذكر: بعض عشرات ملايين الدولارات من النفقات وآلاف من القتلى في حروب "خاطفة". وبالمقابل انفتحت آفاق جديدة للسلب والنهب أمام الشركات عبر القطرية والمركب الصناعي- العسكري والمؤسسات المالية الرأسمالية عبر العالم: أسواق استهلاكية، مصادر للموارد المنجمية والطاقية، مجالات بكر للاستثمار المباشر الأجنبي ويد عاملة زهيدة الكلفة وهي عوامل تفسر مجتمعة النزعة العامة لإعادة توطن وانتشار الأنشطة الصناعية وتسارع نسق تنامي الأدفاق التجارية والأدفاق المالية عبر العالم...هذا فضلا عما شكلته هذه التطورات من نصر تاريخي للمنظومة الفكرية الليبرالية بشكل عام. لقد وفّر تنفيذ هذه الاستراتيجية الامبريالية فرصة تاريخية لإعادة إنتاج المنظومة الرأسمالية التي دبّ إليها الوهن وتتابعت أزماتها الظرفية في العشريات الأخيرة ما شكّل بديلا جديا لمعالجة الاختناقات التي شهدتها هذه المنظومة.
4- أزمة الاقتصاد الرأسمالي
لقد أسهمت الأزمة المالية العالمية التي انطلقت منذ سنة 2008 بالولايات المتحدة الأمريكية وامتدت إلى "النمور" و"التنينات" بشرق وجنوب شرق آسيا وإلى الاتحاد الأوروبي في تسريع تنفيذ الاستراتيجية الامبريالية التي تم الشروع في تنفيذها في أفغانستان والعراق خاصة منذ مطلع الألفية الثالثة. لقد أفضت هذه الأزمة المالية إلى انعكاسات سلبية على المالية العالمية والاقتصاد الحقيقي يشهد على ذلك إفلاس اليونان والإفلاس الذي يهدد عددا من الأقطار الأوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال... والصعوبات المالية والاقتصادية في اليابان(4) والتراجع الملحوظ في نسب النمو الاقتصادي في البلدان الرأسمالية وارتفاع نسب البطالة بها...والعجز المتفاقم في ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية وديونها العامة التي بلغت رقما خياليا غير مسبوق(5). لقد شكلت القوة الغاشمة في أفغانستان والعراق ومن قبلهما يوغسلافيا الخيار الاستراتيجي الرئيسي للقوى الامبريالية العالمية في معالجة هذه الاختلالات وبدا للامبريالية الأمريكية أن السيطرة على الثروات الطاقية بالخليج العربي وآسيا الوسطى من جهة والتحكم في النمو الاقتصادي للمنافسين المباشرين الاتحاد الأوروبي والصين الشعبية هي أهداف مصيرية تستحق المغامرة... وحمل هذا المشروع الامبريالي اسم " الشرق الأوسط الجديد أو الكبير" - العزيز على قلوب "المحافظين الجدد"(6) - والممتد من الرباط إلى جاكرتا غير أن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر.. لقد أسقطت القوى الامبريالية من حساباتها قدرة الشعوب على الصمود والمقاومة وكان للمقاومة الوطنية العراقية الفضل التاريخي في إسقاط المخطط الامبريالي الأمريكي الهادف إلى تجديد المنظومة الاقتصادية الرأسمالية المتآكلة عبر القوة الغاشمة والاستعمار المباشر وبدا لوهلة من الزمن أن المشروع الإمبريالي قد انتهى إلى الفشل الذريع والمهين: فشل القوى الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في تجديد المنظومة الرأسمالية بواسطة القوة الغاشمة...وهكذا باء المخطط الأصلي بالفشل وأصبح "الشرق الأوسط الجديد" من الماضي ، في ذمة التاريخ.