Histoire moderne et contemporaine, Education, Pédagogie, Actualités politiques et socio-économiques, développement régional et Territorial,témoignage...
18 Avril 2018
مدخل
1- لئن كان الشأن التربوي في البلاد التونسية عريقا عراقة هذه البلاد، ضاربا بجذوره في تاريخ خصب من الإسهام المتواصل في الحضارة الإنسانية، فإنه لم يرتق إلى ما هو عليه اليوم من ثراء وتعقيد في مدخلاته ومخرجاته إلا منذ 1956. وفعلا، فقد شهدت البلاد بروز أول منظومة تربوية عصرية ومتكاملة سنة 1958. و تبوأت المدرسة منزلة مركزية في مسار البلاد نحو الحداثة والانتماء إلى العصر حتى أضحى الشأن التربوي ظاهرة حضارية لافتة وملمحا جوهريا لتونس المعاصرة. وشهدت هذه المنظومة التربوية منذ ذلك التاريخ إصلاحين جوهريين أولهما سنة 1991 وثانيهما سنة 2002 (1). وما من شك في أن هذين الإصلاحين حصلا استجابة لحاجات فرضتها تطورات شاملة داخلية وخارجية. وإذا كان الفارق الزمني بين القانون التأسيسي للمنظومة التربوية التونسية وبين أول إصلاح جوهري تشهده هو ثلاثة وثلاثون سنة، فإن الفارق الزمني بين الإصلاحين الثاني والثالث بلغ عقدا من الزمن، وفي هذا التسارع اللافت لنسق الإصلاحات التربوية دلالة قوية لا تخفى على كل مهتم بالشأن التربوي الوطني.
2- ولئن كان إصلاح المنظومة التربوية الوطنية استحقاقا يفرضه التطور الذاتي لهذه المنظومة وتفرضه المتغيرات الوطنية والمتغيرات الدولية المتسارعة في أسس القوة في العالم المعاصر وفي البنى الاقتصادية وفي التطور اللافت للمعرفة وتنوع مصادرها وفي المتغيرات الاجتماعية علاوة على ما يشهده قطاع التربية والتعليم عبر العالم من تحولات جوهرية، فإن ثورة الحرية والكرامة فتحت أفقا رحبا أمام المنظومة التربوية والعملية التعليمية التعلمية برمتها. فشرط الحرية والكرامة بما هو في بعض وجوهه شراكة تامة في الشأن الوطني واستفادة عادلة من ثمار التنمية، هو كذلك شراكة حقيقية في النهوض بالشأن التربوي تصورا وتنفيذا سواء تعلق الأمر بالمرجعيات أو بالغائيات أو بالوسائل أو بالطرائق والمضامين.
3- لقد سارعت وزارة التربية في سعي منها إلى مواكبة هذا التحول الجوهري في البلاد التونسية إلى وضع استراتيجية لإصلاح المنظومة التربوية مثلت الندوة الوطنية حول " منهجية الإصلاح التربوي" المنعقدة أيام 29 و30 و31 مارس 2012 قاعدتها الأساسية بما تضمنته من تشخيص وما تمخض عنها من توصيات ومقترحات. وعلى الرغم مما حف بهذا الجهد من نوايا طيبة، فقد بدا لنا في إبانه عملا مجتزءا، يذهب إلى تفاصيل الأمور ويغفل الإطار العام ولا يجيب على جملة من الأسئلة الجوهرية:
- هل نريد إصلاح منظومة تربوية قائمة أم نريد إرساء منظومة جديدة تمام الجدة؟
- ما هي مرجعيات هذا المشروع؟
- أي رسالة للمدرسية التونسية في القرن الواحد والعشرين وفي ظل الثورة؟
- أي نموذج للمدرسة التونسية يريد التونسيون؟ هل هي المدرسة الواحدة أم المدرسة المتعددة؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تبقى ضرورة ملحة تسبق كل جهد يعنى بالمسائل التفصيلية والفنية التي هي من صميم تخصص الخبراء، وهي تتطلب توافقا بين التونسيين جميعا باعتبار الشأن التربوي شأنا يعني التونسيين جميعا في حاضرهم وفي مستقبلهم.
4- تقترح هذه الورقة النظر في دواعي تجديد المنظومة التربوية التونسية، كما تقترح قراءة جديدة في القيم التي تضطلع بها المدرسة التونسية في ظل المتغيرات العالمية والوطنية وتنتهي بكشف في الاستحقاقات المترتبة عن هذا الاختيار وهي استحقاقات لا بد أن ينهض لها التونسيون جميعا بذلا وتضحية وينهض لها المربون معرفة وطرائق، من شأنها أن تضع منظومتنا وبلادنا في قلب العصر قيما ومعارف وطرائق ومخرجات.
وهي تنتظم في ثلاثة محاور كبرى: ففي قسمها الأول تتعرّض إلى موجبات تجديد المنظومة التربوية التونسية ، أما في قسمها الثاني فإنها تنظر في القيم التي تنهض بها هذه المدرسة وما يترتب عنها من مواصفات، وتنتهي في قسمها الثالث والأخير إلى كشف في الاستحقاقات المترتبة عن هذه المقاربة سواء تعلق الأمر بالبنى التحتية التربوية أو بالموارد البشرية القائمة على الشأن التربوي أو بالتنظيمات التربوية تصورا وتنفيذا.
I- في موجبات تجديد المنظومة التربوية التونسية
يرتبط السعي إلى تجديد المنظومة التربوية التونسية بالمتغيرات المتسارعة على المستوى العالمي في أوجهها القيمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والتربوية ،كما يرتبط ثانية بالمتغيرات على المستوى الوطني وأهمها ما كشفت عنه مسار ثورة الحرية والكرامة من طموح مشروع إلى الشراكة العادلة في الوطن وحق جميع التونسيين دون استثناء في السلطة وفي الثروة وفي التنمية، ويرتبط أخيرا بما يفرضه واقع المدرسة التونسية من معالجة لم تعد تحتمل التأجيل أو التأخير.
1- التغيرات المتسارعة في المستوى العالمي
* أسس جديدة للقوة والنفوذ
لقد ارتبطت قوة الأمم والشعوب ، طيلة القرون الماضية وما تزال إلى حدّ ما حتى اليوم، بالثقل الديمغرافي وبالامتداد المجالي وما يوفره من ثروات سطحية وباطنية وبالقدرة على تثمين هذه الثروات استخراجا وتحويلا وتبادلا، كما ارتبطت هذه القوة بالقدرات العسكرية الضامنة لحماية المصالح الحيوية لهذه الأمم والشعوب. غير أن العالم المعاصر بدأ يشهد وبالتدريج تغيرا ملحوظا في أسس هذه القوة وما يترتب عنها من نفوذ عالمي. لقد أصبح إنتاج المعرفة وتملكها وإنتاج التكنولوجيات والتحكم فيها والقدرة على تطويرها وتأهيل الموارد البشرية وحسن توظيفها وتطويع هذه التجديدات العلمية والتقنية للواقع المحلي والقدرة على اقتناص ما يتيحه الواقع الدولي من فرص للنمو والتنمية من الأسس الرئيسة للقوة والنفوذ في العالم (2). ولئن كانت القطيعة بين الأسس التقليدية والأسس الجديدة للقوة في العالم المعاصر غير تامة، فإنّ عالما جديدا يبرز من رحم عالم قديم، تتغير فيه المواقع وتتغير فيه القدرة على التأثير وعلى صياغة القرار الدولي و وحدها الشعوب التي لا تزال تنظر إلى القوة والنفوذ وفق المقاييس التقليدية هي التي لا تزال على هامش حركة التاريخ إبداعا علميا وتكنولوجيا ورفاها واستقلالية في القرار الوطني.
* مكانة متنامية لاقتصاد المعرفة ضمن اقتصاد يتجه نحو الثولثة
يمثل الاتجاه نحو الثولثة السمة الأبرز في تطور بنية الاقتصاد العالمي . ويتخذ هذا التوجه مظهرين رئيسيين: تنامي حصة القطاع الخدمي بكل فروعه في التشغيل وتنامي حصته في تركيبة الناتج الداخلي الخام. وفي كلا الحالتين تتجاوز هذه الحصة الثلثين بل وتصل إلى 75 ℅ في بلدان الشمال وهو ما يؤشر إلى بروز ملامح اقتصاد جديد تحتل فيه الخدمات – بما تفترضه من سيطرة عالية على المعارف والمعلوماتية والتكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال- منزلة رئيسية. ولهذا السبب بالذات يتبوأ اقتصاد المعرفة مكانة متنامية ضمن بنية الاقتصاد العالمي. واقتصاد المعرفة هو في الآن نفسه إنتاج المعرفة ومعالجتها وتطوير تطبيقاتها والتحكم في تبادلها عبر العالم وهو ما يدرّ عائدات مالية هائلة ويمنح في الوقت نفسه نفوذا عالميا متأكدا لا يرتبط بالضرورة بالمقومات التقليدية للقوة مثل الامتداد المجالي والثروات الطبيعية والثقل الديمغرافي والقدرات العسكرية (3).
ولئن كان الصراع بين القوى الاقتصادية الكبرى في العالم ما يزال محتدما حول موارد الطاقة التقليدية والموارد المنجمية والأسواق، فإن أحد أوجهه الخفية هو الصراع حول " الأدمغة". وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحتكر جائزة نوبل في كل فروع المعرفة منذ أواسط القرن العشرين وتكسب سبقا جليا في الاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية، فإن ذلك يعود بدرجة رئيسية إلى استقطابها للأدمغة من كل أرجاء العالم بدءا بأوروبا وانتهاء بآسيا ( الاتحاد الهندي والصين الشعبية وكوريا الجنوبية) وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لقد أفضت هذه التطورات إلى بروز خارطة جديدة للمهن، يرتبط فيها الحظ في الشغل بحد أدنى من تملك معارف ومهارات مخصوصة أكثرها في علاقة وثيقة بالثورة المعلوماتية والتكنولوجية. وفي ضوء هذه التطورات، بدأت تتشكل ملامح بنية اجتماعية جديدة، تتوالد من رحم المجتمع الطبقي التقليدي رغم كون العمل ورأس المال ظلا العمود الفقري لهذا المجتمع.
* تغيرات عميقة في البنية الاجتماعية على المستوى الكوني
ترتبط هذه التغيرات في بنية المجتمع بثلاثة عوامل أساسية:
- تنامي ظاهرة العولمة في أوجهها الاقتصادية والثقافية. ويسجل العالم المعاصر تسارعا غير مسبوق في نسق تنامي أدفاق السلع وأدفاق المال وأدفاق المعلومات فضلا عن الأدفاق البشرية.
- الثورة المعلوماتية والتكنولوجية وآثارها الجلية على حياة الناس سلبا وإيجابا في كلّ أنحاء العالم.
- انتشار ثقافة المبادرة الفردية كنتيجة للتمدد الملحوظ لنمط الانتاج الرأسمالي والفكر الليبرالي عامة خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية في نهاية تسعينات القرن العشرين.
- التركّز المتزايد لرأس المال عبر عمليات الاندماج والشراء وعبر تدويل الانتاج والمبادلات وعبر التحالفات المالية وهو تركز أفضى إلى احتكار الثروة العالمية من قبل أقلية مقابل تنامي عدد المفقرين وتوسع المجالات الطرفية المهمّشة.
- تصاعد سطوة الشركات عبر القطرية والمركبات الصناعية العسكرية والطغم المالية وتراجع الجغرافيا وتقلّص سلطة الدولة الوطنية عامة في ظل العولمة.
لقد أفضت هذه العوامل إلى تشكل شرائح اجتماعية جديدة خاصة في وسط الهرم الطبقي وفي أسفله يمثلها مئات الآلاف بل والملايين ممن يشكلون الطبقة الوسطى ومن " المهمشين" الذين لفظتهم المنظومات الاقتصادية المتخارجة والتابعة عبر العالم، يتسمون بتباين مؤهلاتهم العلمية ولكن يوحد بينهم وضعهم الهامشي وظروف عيشهم التي تزداد صعوبة يوما بعد يوم.
* سيادة قيم حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية
رافقت هذه التحولات الجوهرية والمتسارعة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي تحولات ثقافية شملت القيم في خط مواز لتنامي استغلال قوة العمل والتنامي الملحوظ لعدد المهمشين والعودة القوية للقضايا الهووية باعتبارها الدّرع الواقي من مخاطر العولمة المتوحشة في وجهها الثقافي الذي يستهدف القضاء على الخصوصيات الثقافية. وأبرز هذه القيم هي ما يتعلق بحقوق الانسان بمختلف أنواعها بدءا بالحقوق الاقتصادية والثقافية وانتهاء بالحقوق السياسية. وأصبحت الديمقراطية والتعددية السياسية والحق في بيئة سليمة مطلبا جوهريا لشرائح واسعة من المجتمعات في كل أرجاء العالم، تشهد على ذلك الاحتجاجات الاجتماعية المتدحرجة عبر البلدان والقارات طيلة سنة 2011 وحتى منذ ما قبل هذا التاريخ إذ اتخذت شكل احتجاجات شعبية نشّطتها الحركات المناهضة للعولمة .
* عودة التاريخ: مسألة الهوية في مواجهة العولمة المتوحشة
شهد العالم المعاصر ولا يزال تناميا مطردا للاحتجاجات ذات الطابع الهووي. وعلى عكس ما ذهب إليه البعض من القول " بنهاية التاريخ" كنتيجة للغلبة الظاهرية للمنوال الليبرالي منذ نهاية تسعينات القرن الماضي (4)، فإن التاريخ يعود بقوة وعنف في أرجاء مختلفة من العالم تأكيدا لهويات مهددة ورفضا للهيمنة التي تفضي إلى إلغاء الآخر.
إن التربية ، بحكم الدور الذي تضطلع به في نشر المعرفة وترقية القدرات الذهنية والحسية الحركية والوجدانية وفي تغذية الهوية الوطنية وفي ترسيخها لدى جمهور المتعلمين، واحد من أبرز عناوين المرحلة التاريخية الحالية يحمل عليها رهان على جانب من الصعوبة: فكيف السبيل إلى مواكبة التجدد المتسارع للمعارف والتقنيات باعتماد طرائق تيسر تملكها وتوظيفها من قبل المتعلمين؟ وكيف السبيل إلى المحافظة على الهوية الوطنية وتغذيتها في مواجهة النموذج الاقتصادي- الاجتماعي- الثقافي النمطي الذي تحمله رياح العولمة العاتية دون السقوط في الانغلاق على الذات ؟ وبعبارة أخرى كيف للتربية أن تجمع بين التربية على الهوية المخصوصة دون القطع مع القيم الانسانية الكونية والمشتركة؟
2- التغيرات في المستوى الوطني
ترتبط هذه المتغيرات بما جاءت به الثورة من تطلعات مشروعة إلى إقامة مجتمع مواطني حر يشترك الجميع في نحت ملامحه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، كما يرتبط بتغيرات ديمغرافية جوهرية لها انعكاس مباشر على الشأن التربوي.
* المتغيرات السياسية: الثورة واستحقاقاتها في ميدان التربية والتعليم
أكدت ثورة الحرية والكرامة – رغم محاولات التضليل والخداع والالتفاف التي تعرّضت لها ولا تزال- أن المطلب الجوهري للثائرين الذين قارعوا ببطولة وصمود تاريخيين منظومة الإقصاء والفساد والاستبداد وبذلوا الدماء سخية ، هو الشراكة الحقيقية والتامة والعادلة في الوطن، قطعا مع عقود بل وقرون من التهميش والاعتداء والإذلال. إن ترجمة هذا المطلب في ميدان التربية والتعليم يعني ببساطة حق التونسيين جميعا ودون استثناء أو تمييز في تعليم ديمقراطي، نوعي في مدخلاته وفي مخرجاته، كما يعني أيضا الشراكة في إدارة الشأن التربوي عبر إرساء علاقة أفقية بين مختلف الأطراف الفاعلة في هذا الميدان قطعا مع العلاقة العمودية التي اعتمدت لعقود مع ما صاحبها من قرارات وإجراءات فوقية يصدرها جهاز بيروقراطي متورّم منقطع إلى حد كبير عن الواقع التربوي في البلاد.
والواضح أن هذا المنطق الجديد في التعاطي مع الشأن التربوي غائب تماما عن ذهن صانع القرار السياسي طوال السنتين الماضيتين. وإذا استثنينا تلك الندوة اليتيمة التي نظمتها وزارة التربية حول " منهجية إصلاح المنظومة التربوية" (5) وفق نفس المنطق البيروقراطي الموروث، فإن الشأن التربوي لقي إهمالا تاما، شأنه في ذلك شأن المسألة الثقافية، وظل خارج اهتمامات النخبة التي تتسيّد المشهد السياسي بعد14 جانفي 2011. إن هذا الواقع الخطير يطرح على المربين بالدرجة الأولى التعاطي مع مهمة النهوض بهذا القطاع الحيوي تصورا وتنفيذا وفرض منطق الشراكة بما يخدم المصلحة الوطنية العليا ويعزّز هذا المكسب الشعبي ويطهره مما علق به من شوائب كثيرة والتصدي في الوقت نفسه لدعوات مشبوهة إلى تفكيكه وضرب ما سجله من مكاسب.
* التغيرات الديمغرافية
سجلت نسبة التزايد الطبيعي للسكان في تونس تراجعا واضحا منذ الخمسينات نتيجة للسياسة السكانية المعتمدة ونتيجة للتحسن الجلي في مستوى العيش واستقرت حاليا في حدود 1 ٪، غير أنها تتسم بتباينات جلية اجتماعية ومجالية. وإذا كانت تقلّ عن 1 ٪ في المدن الكبرى للمجال الساحلي، فإنها تتراوح إجمالا بين 1 ٪ و 2٪ في بقية أنحاء البلاد وتحديدا في المناطق الداخلية. ويترتب عن هذا التغير في المعطى الديمغرافي أمران أساسيان:
- تجاوز الجانب الكمي في التمدرس عامة حيث تتعدى النسبة العامة للتمدرس 99٪ مع تباينات طفيفة بين المدينة والريف وبين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية وبين الجنسين.
- ارتقاء الجوانب النوعية في التعليم والتعلم عامة إلى درجة الأولوية المطلقة والمقصود في هذا الباب تحديدا شروط التعلم النوعي في مدخلاته وفي مخرجاته: الفضاءات والموارد البشرية والمناهج والوسائل والتنظيمات التربوية والحياة المدرسية عامة من جهة والنتائج المدرسية من جهة ثانية.
3- واقع المؤسسة التربوية التونسية: مفارقات لا حصر لها
* التراجع الجلي للدور الطلائعي الذي اضطلعت به المؤسسة التربوية ولا تزال - رغم كل المتغيرات- في الارتقاء بالوطن ثقافة وتنمية وعلاقات اجتماعية. فالمؤسسة التربوية العمومية – في واقع بلادنا- ما تزال رغم كل شيء بمثابة القاطرة التي تجرّ الوطن نحو مزيد من الحداثة والتنوير والرقي الاجتماعي والمادي، غير أن هذا الدور مهدد إذا لم يتم تدارك مواطن الضعف في هذه المنظومة. فلئن استمدت هذه المنظومة مكانتها في فترة ما بعد 1956 حتى ثمانينات القرن الماضي من كونها المصدر الوحيد للمعرفة والسبيل الأوحد للتنوير الفكري والرقي المادي والاجتماعي، فإنها أصبحت اليوم تواجه منافسة حادة ومتنامية من قبل مصادر أخرى للمعرفة غزت البيوت والعقول كما تعطّل دورها كمصعد اجتماعي خاصة بالنسبة للشرائح الفقيرة والمهمشة وهو ما أضعف جاذبيتها وقلّص في مصداقيتها. وتمثل استعادة الدور التاريخي للمؤسسة التربوية وتأكيد أهميتها في مسيرة بلادنا عبر منحها جاذبية متجددة وتعزيز مصداقيتها رهانا حقيقيا لا بد منه في كل جهد تجديدي يستهدف النهوض بهذه المنظومة.
* درجة التعقيد التي بلغتها المنظومة التربوية الوطنية كما وكيفا بعد خمسين سنة عن نشأتها. ومن أبرز تجليات هذا التعقيد تغير في الأولويات الكبرى: فبعد كسب رهان " الكم" بدليل نسبة التمدرس العالية أصبحت المنظومة التربوية التونسية مطالبة بكسب رهان الجودة والنجاعة بما يقتضيه هذا الرهان من تعلّم نوعي في محتوياته وفي طرائقه وفي تنظيماته. إنّ شعارات الجودة والحرفية والمردودية والنجاعة التي يرفعها القائمون على المنظومة التربوية اليوم تظل بلا معنى في ظل غياب تصور متكامل لهذه المنظومة في مضامينها وهياكلها وآليات اشتغالها. ولا يمكن كسب رهان "الكيف" فقط عبر تطوير البرامج التعليمية والكتب المدرسية والمقاربات البيداغوجية ونظم التقييم والإشهاد...، بل إن كسب هذا الرهان يمرّ قبل كل شيء عبر تطوير الإطار الأوسع لهذه المحاور وهو المنظومة التربوية بما هي تعلمات وتنظيمات وتصرّف وتسيير وتجهيزات وحياة مدرسية.
* التغير المستمر في ملامح المتعلمين وتنوعها
وتشمل هذه الملامح الظروف النفسية – الاجتماعية، الانتظارات والطموحات، القدرات والاستعدادات وذلك في علاقة وثيقة بتطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي ... ولئن كان هذا العامل واحدا من أسباب الإصلاح التربوي لسنة 2002 فأن أثره اقتصر على نظام التوجيه المدرسي وعلى البرامج التعليمية والمقاربات البيداغوجية بشكل رئيسي، أما في ميدان الحياة المدرسية فقد تم الاكتفاء بإصدار "الأمر المنظم للحياة المدرسية" سنة 2004 (6) وهو نص تأكد مع الزمن قصوره عن القيام بأعباء الحياة المدرسية تصورا وتنظيما وتنفيذا ومتابعة رغم ما يحمل من إيجابيات. والثابت أنه لم يعد من الممكن – في الوقت الحاضر- أن تضبط الحياة المدرسية في مفهومها ومضامينها وآلياتها... بطريقة نمطية تقفز على هذه المتغيرات والفوارق الموضوعية وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن حياة مدرسية مجدية وناجعة تفترض دورا أكبر للمتعلمين في ضبط ملامحها العامة على الأقل. إن المفارقة القائمة بين تنوع ملامح المتعلمين والتغير المستمر لهذه الملامح من جهة، وبين التصور النمطي والشكلي للحياة المدرسية - بما يحولها إلى مجرد روتين إداري- في بعض جوانبها من جهة ثانية هو الذي يفسر ضعف الاهتمام بالنشاط الثقافي والاجتماعي والرياضي في المؤسسات التربوية في مستوى التصور والتنظيم والاستمرارية وضعف انخراط المتعلمين في ظل احتداد منافسة وسائط العصر للمدرسة إجمالا، كما يفسر الاشتغال "الشكلي" للآليات التي أقرها الأمر المنظم للحياة المدرسية : مجلس المؤسسة والمجلس البيداغوجي للمدرسين وإلا فكيف نفسر- مرة أخرى- تفاقم بعض الظواهر السلبية في العملية التربوية ؟
* مردودية لا ترتقي إلى التضحيات التي تبذلها المجموعة الوطنية
تتجلى هذه المفارقة في ما بين الجهد الوطني المبذول في قطاع التربية والتعليم من جهة وبين نوعية "المنتج التربوي" من جهة ثانية من بون كبير. ذلك أن هذا المنتج التربوي - في مستوى نوعيته - ما يزال دون حجم التضحيات الكبيرة التي تبذلها المجموعة الوطنية: فتملك اللغات وتوظيفها دون المؤمل، وتمثّل العلوم والتكنولوجيات والإبداع فيها محدود ... تشهد على ذلك نتائج التقييمات الدولية التي تشارك فيها بلادنا (7). والواقع أن هذه المفارقة تستبطن هدرا للموارد والطاقات لا يمكن احتماله بالنظر إلى محدودية هذه الموارد. والأخطر من هذه المفارقة هو تفسيرها من قبل البعض إذ يلقى اللوم بكل بساطة على المتعلّم وعلى وليّه كاتهام الأوّل بالكسل والإهمال واتهام الثاني باللامبالاة... ولا يشار تماما إلى مسؤولية المؤسسة بالمعنى الشامل، أما إذا ما تمت الإشارة إلى هذه المسؤولية فإن ذلك يتم بطريقة تجزيئية فيكون العيب مثلا في البرامج التعليمية أو في المقاربات البيداغوجية أو في نظم التقييم.... وبذلك تظل المعالجات جزئية لا شاملة وسطحية بدل أن تكون عميقة. إن التطوير الشامل للمنظومة التربوية هو بدون أدنى شك المدخل الضروري لمعالجة هذه المفارقة التي تخفي في ثناياها تراجع جاذبية المؤسسة التربوية ومصداقيتها.
* تفاقم التسيب والتلاشي التدريجي لرسالة التربية
سجّلت المنظومة التّربوية تراكم جملة من المشاكل ظل مسكوتا عنها لردح من الزمن حتى تفاقمت وارتقت إلى درجة المعضلة: تمدّد ظاهرة التغيب عن العمل، وتفشّي ظاهرة اللاّمبالاة في صفوف مختلف أصناف العاملين في المؤسسة التّربويّة... وضعف الحماس للعمل التربوي والتلاشي التدريجي " لرسالة المربي والتربية"، غيابات المتعلمين بدون أسباب وجيهة وضعف دافعية التعلم لديهم ...،تفاقم ظاهرة الغش في الامتحانات بمختلف أصنافها، تفاقم ظاهرة العنف اللفظي والمادي في الوسط المدرسي (8)، تدهور العلاقات داخل المؤسّسة التربوية بين مختلف الأطراف وغلبة " العرف" و "المجاملات " و " الاعتبارات الذاتية" على منظومة العلاقات بدل الاحتكام إلى القانون والتراتيب الإدارية . إن هذا الواقع يحتم فعلا أكثر من أي وقت مضى معالجة شاملة وفعالة للمسألة بكل جوانبها بما يسهم في إيقاف هذا التيار الذي يتمادى من سنة إلى أخرى ويلحق ضررا حقيقيا ونوعيا بالمنظومة التربوية.
إن هذه المفارقات وغيرها مما لم نذكره في هذه الورقة، تتناسل كلها من مفارقة جوهرية: مدرسة واحدة في واقع تربوي "متعدّد".
* مدرسة واحدة في واقع تربوي متعدّد ومتنوّع
لئن كان هاجس التعليم الموحّد حاضرا في ذهن المشرّع التربوي منذ 1958 ردّا على التعليم "المتعدّد" الموروث عن الحقبة الاستعمارية ( تعليم فرنسي، تعليم زيتوني، تعليم عصري مختلط) وما يمثله من خطر يهدد بتلاشي الشخصية الوطنية و وحدة النسيج الاجتماعي التي انبنت عبر قرون من العيش المشترك، فإن هذا الهاجس – على واقعيته- أفضى إلى إنكار ما يسم محيط التعلم من تنوّع وتعدّد وفتح على مفارقة تحولت مع الزمن إلى أحد عوامل الوهن في المنظومة التربوية الوطنية، تعززها سياسات غلب عليها الاجحاف في حق المناطق الداخلية للبلاد التونسية سواء في إقامة المؤسسات التربوية أو في تجهيزها أو في توفير ما يلزمها من موارد بشرية.
لقد تمّ التعاطي مع الواقع التربوي الذي يتسم في أبعاده المختلفة بالتنوع والتعدد، بتعلّمات وتنظيمات موحّدة لا تراعي هذا التعدد والتنوّع، تشهد على ذلك المركزية المفرطة في اتخاذ القرارات التربوية وفي التسيير عامة ،كما تشهد على ذلك وحدة المناهج ونظم التقييم.
ومن مظاهر هذا التعدد، التنوّع الجلي في بيئة التعلم: بيئة حضرية/ بيئة ريفية، بيئة ساحلية/ بيئة داخلية، بيئة صناعية / بيئة فلاحية...فضلا عن التباينات المناخية بين شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها وعن تباين عراقة الفعل التربوي بين مختلف أنحاء البلاد وتباين قدرة الاسر التونسية على القيام بأعباء التربية بسبب تفاوت الامكانيات المادية و تباين في ملامح المتعلمين وفي انتظاراتهم ...وقد لازم هذا التعدد والتنوع في بيئة التعلم تباين حقيقي في البنية التحتية التربوية: المؤسسات، التجهيزات، النقل والموارد البشرية الموظفة في العملية التربوية. ومع ذلك فإن هذا الواقع التربوي المتعدد يدار بجهاز قانوني وتنظيمات وآليات موحّدة.
إن هذه المفارقة تفسر إلى حد كبير تفاوت الحظوظ بين المتعلمين وبين جهات البلاد وضعف القدرة على تحقيق الانصاف بينهم ولسنا في حاجة إلى التدليل على هذا الأمر، فالإخفاق والانقطاع المدرسيّان والتباين الشديد في نتائج الامتحانات الوطنية ( البكالوريا) بين الولايات تؤكد، كلّها، هذه الحقيقة.
II - في قيم المدرسة في تونس الجديدة
1- مدرسة تقدّس العلم وتحترم القائمين عليه
لا مناص من أن تستردّ المدرسة التونسية الدور الذي لعبته طيلة العقود الماضية في اتجاهات متلازمة:
- المحافظة على الهوية في أبعادها المختلفة: التونسية والعربية الاسلامية وتجذير الناشئة فيها بعيدا عن الاستلاب في وجهيه " الماضوي " و " الحداثوي".
- مواصلة الاضطلاع بالدور التنويري والتحديثي الذي منحها – والقائمين عليها- منزلة مرموقة في تحديث المجتمع وتعصير الدولة وحتى تظل بوّابة التونسيين إلى العصر .
- استعادة دورها كمصعد اجتماعي خاصة بالنسبة للشرائح الفقيرة والمهمشة من المجتمع التونسي وذلك من خلال إعادة النظر في العلاقة بين التعلمات والطرائق ونظم التقييم من جهة وبين حاجة الوطن إلى موارد بشرية عالية الجودة يكون لها دور في النهوض بالوطن اقتصادا وثقافة وتربية....
إن استعادة هذا الدور يمرّ حتما عبر ردّ الاعتبار للتربية والتعليم والقائمين عليهما في البلاد. و واحد من الشروط الأساسية لردّ الاعتبار هو التحسين الجاد والحقيقي للحالة المادية للمربين بمختلف أصنافهم بما ينهي بعض الظواهر المؤذية للعملية التربوية والمرفوضة مهنيا وأخلاقيا والتي اتسع مداها في العشريات الأخيرة وشكلت الملاذ الوحيد أمام شريحة من المربين لمواجهة التدهور المستمر لمقدرتهم الشرائية في الوقت الذي ازداد فيه غلاء المعيشة. إن العوامل التي دفعت المشرّع إلى العناية بسلك القضاء- في مستوى التأجير- للنأي به عن كل ما قد يتسبب في تلاشي رسالته، يجب أن تكون هي نفسها في معالجة الوضعية المادية للمربين. وإذا كان تحقيق العدالة محمولا على جهاز القضاء باعتبار“ العدل أساس العمران"، فإن بناء مواطن المستقبل محمول على المربين، ومهمة المربين في بناء الوطن لا تقل خطورة عن الدور الذي يضطلع به سلك القضاء عامة في إرساء وإشاعة قيم الحق والعدل.
أما الآليات الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف فهي متنوّعة:
- ومنها ما هو مادي مباشر ويتمثل في تحسين الوضع المادي للمربين وفق مبادئ وأسس تراعي مصالح المربين من جهة وحق المتعلمين في تعليم ناجع وحق المجموعة الوطنية في منتج تربوي عالي الجودة يستجيب لحاجات الوطن إلى موارد بشرية نوعية من جهة ثانية.
- ومنها ما يتعلق بالبنية التحتية التربوية عامة: التجهيزات والفضاءات.....
- ومنها ما يتعلّق بالتنظيم والتسيير وذلك بإرساء شراكة حقيقية بين مختلف المتدخلين في الشأن التربوي مثل انتخاب هياكل التسيير الإداري والمجالس المختصة التي يجب أن تتمتع بسلطة تقريرية في تسيير المؤسسات التربوية والتصرف في مواردها مع انفتاح حقيقي على محيط التعلم.
2- منظومة ديمقراطية
للديمقراطية في التربية أوجه متعددة:
- فالديمقراطية في هذا المقام تعني أن تضمن المنظومة التربوية حق التونسيين جميعا - دون استثناء أو إقصاء على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو الوضع الاجتماعي أو الانتماء الجهوي- في التعليم.
- وهي تعني أيضا حق المتعلمين في مختلف أنحاء البلاد في التمتع بما يلزم من التجهيزات والموارد البشرية والتمويلات اللازمة للسير العادي للعملية التربوية دون حيف ودون تمييز.
- كما تعني حقّ المتعلمين في تعلّمات تراعي الفوارق بينهم وتأخذ بعين الاعتبار تنوّع محيط التعلّم بدل التعسف عليه، وتعتبره فرصة إضافية للنجاح التربوي بدل اعتباره مبرّرا للفشل.
- كما تعني الديمقراطية كذلك الشراكة في التسيير وفي وضع المناهج ونظم التقييم والكتب المدرسية...بما يقطع مع البيروقراطية التي طالما كبّلت المبادرة الفردية وروح الإبداع لدى الأطراف المباشرة للفعل التربوي.
- وهي تعني أخيرا اللامركزية في التسيير وفي التنظيم وفي كل ما يتعلق بالتعلّمات ، أي إرساء "مدرسة متعددة" بدل نموذج المدرسة الواحدة التي أفضت إلى الأزمة الحالية.
3- منظومة تربوية تهيء للحياة الاجتماعية
قامت المنظومة التربوية التونسية منذ نشأتها حتى نهاية القرن العشرين تقريبا على بعدين متلازمين:
- أوّلية المعرفة في التعلّم في إطار مقاربة بيداغوجية تقوم على التراكم.
- الربط الآلي بين التعليم والتشغيل بمعنى أنها كانت تضع تهيئة المتعلمين للحياة المهنية – وفقا لحاجات الاقتصاد الوطني- على سلّم الأولويات، بدل تهيئتهم للحياة الاجتماعية بالمعنى الشامل.
لقد أثبتت التحولات المشهودة في المستويين العالمي والوطني في الاقتصاد وفي العلاقات الاجتماعية وفي المعارف والعلوم وفي التربية والتعليم عامة أن هذين البعدين أفضيا إلى انسداد الآفاق في العملية التربوية. فمقتضيات العصر تفترض تطوير كفايات المتعلمين معارف ومهارات وسلوكات واتجاهات ومواقف وهي كفايات يمثل تملك المعرفة أحد أوجهها لا غير من جهة، كما تفترض أيضا تهيئة المتعلمين للحياة الاجتماعية بصفة عامة ، والحياة المهنية هي جزء منها لا غير ، من جهة ثانية.
إنّ أبرز التحديات التي تواجه المنظومة التربوية التونسية اليوم هي إنجاز هذا التحوّل من مرحلة " حشو الأدمغة" وتوفير يد عاملة وموارد بشرية مرتبطة بحاجات اقتصاد تابع ومتخارج، إلى مرحلة تملك كفايات متنوّعة تهيء المتعلّم لحياة اجتماعية سمتها الرئيسية التغير المتسارع والمستمرّ إذ لا مجال لمنظومة تربوية ثابتة / رافضة للعصر، في واقع دائم التغير .
4- منظومة تحفظ الهوية الوطنية وتغذيها
لم تكن مسألة الهوية محلّ خلاف بين التونسيين، وتقديري أن هذا الخلاف الذي تسعى أطراف سياسية بعينها إلى تغذيته هو خلاف مفتعل يستهدف تغييب القضايا الجوهرية التي طرحها ويطرحها المسار الثوري المتواصل منذ 17 ديسمبر 2010: قضايا السلطة والثروة والتنمية من زاوية المواطنة الكاملة والحق في الوطن. ولا يمكن للعملية التربوية في هذا الباب بالذات أن تقفز على حقائق التاريخ وعلى مقتضيات الجغرافيا. فعروبة التونسيين وإسلامهم ليسا محلّ تنازع ، والعمق التاريخي للبلاد وساكنتها منذ الحقبة "القبصية" حتى اليوم لا يمكن التغاضي عنه. أما انفتاح هذا البلد وهذا الشعب على الحضارة الانسانية والتفاعل معها تأثرا وتأثيرا فهو من مقتضيات الجغرافية المفتوحة شرقا وشمالا على البحر المتوسط، وجنوبا على القارة الافريقية. وهكذا فإن الدوائر الحاضنة للشخصية التونسية ولمصالحها هي الدوائر العربية - الاسلامية والمغاربية والمتوسطية والافريقية. ولا مجال ، والحال على ما ذكرت، للانغلاق الهووي لأنه يعني تعطّل العطاء الحضاري ، كما أنه لا مجال للانفتاح السافر على حساب الهوية الوطنية العربية الاسلامية لأنه يعني تلاشي إرث حضاري ضخم كدح هذا الشعب على مرّ القرون لتحقيقه. ومن المهام المحمولة على التربية والتعليم تجذير المتعلمين في هويتهم الوطنية بأبعادها المختلفة وتربيتهم على الانفتاح على الآخر والتفاعل معه كشرط لتواصل الاسهام في العطاء الحضاري العالمي. ويمثّل الغلوّ " الماضوي" ونظيره " الحداثوي" خطرين حقيقيين يهدّدان وحدة هذا الشعب وهويته التي نحتها تاريخ ثري وعميق وجغرافية مفتوحة وقرون من العيش المشترك وقدرة عالية على التكيف مع المستجدّات الوطنية والاقليمية والدولية.
III- مدرسة " متعددة" تتسم بالمرونة
1- من نموذج "المدرسة الواحدة" إلى نموذج "المدرسة المتعددة"
إن التفكير في حل سلسلة المفارقات التي أشرنا إليها آنفا يمرّ حتما عبر مراجعة "نموذج المدرسة" الذي هو جوهر المنظومة التربوية. وما من سبيل إلى حلّ هذه المفارقات إلا بمنظومة تقوم على المدرسة "المتعددة" في اتساق تام مع الواقع الوطني الجديد، وشرط المدرسة "المتعددة" هو اللامركزية في التسيير وفي التنظيم وفي بعض جوانب التعلم....ولا سبيل إلى مدرسة مبدعة، متناغمة مع العصر قيما ومستجدات معرفية واقتصادية ومهنية وتكنولوجية في ظل التسيير المركزي وسياسات التحكم المعززة بالتهميش أحيانا.
إن " المدرسة المتعددة" هي مدرسة واحدة في ما يجب أن يكون موحدا: المعارف والمهارات والسلوكات التي ننشد تحققها لدى الناشئة ، نظم التقييم وشروط الارتقاء والرسوب والرفت...إلخ،وهي متعددة في ما يفترض أن يكون متعددا دون إضرار بتماسك المنظومة العامة ودون تناقض مع أهدافها الكبرى: الزمن المدرسي، محامل التعلمات، تهيئة الفضاءات مثلا.... ولن يتحقق نموذج المدرسة "المتعددة" إلا في ظل الاختيار الواضح للامركزية التسيير والقرار وهو ما يعني بعث " أقاليم تربوية" أو " أحواض مدرسية / تربوية" (9) كبرى تتولى الإشراف على الشأن التربوي في مجالها فتقرر الزمن المدرسي وأزمنة التقييم المرحلي وغير ذلك مما يتفق ومحيط التعلم ولا يضرّ في الوقت نفسه بوحدة المنظومة...إن أساس المدرسة المتعددة هو احترام تنوّع المتعلمين وتنوّع بيئة التعلّم، وجوهرها هو النأي بالمتعلمين عن الشعور بالاستلاب، إن جوهرها هو إعلاء قيمة الحرية واحترام الكرامة البشرية.
لقد أفضى نموذج "المدرسة الواحدة" إلى تعميق الإقصاء والتهميش والتباينات الاجتماعية في بلادنا التي أصبحت تسير "بسرعتين". ودفعت الطبقات الاجتماعية المفقرة والجهات المهمشة الثمن غاليا: كلفة باهظة للتعليم وبطالة نوعية مستشرية بين حاملي الشهادات العليا وبنية تحتية تربوية رثة تهيئ للإنقطاع المبكّر والفشل المدرسي...فضلا عن انتشار سلوكات منافية للرسالة التربوية حتى بدا لبعض المتابعين للشأن التربوي أن " المدرسة التونسية أصبحت تناقض أهدافها" (10).
2- مدرسة معاصرة في تشريعاتها وفي تنظيماتها وفي تعلماتها
لا خيار أمام المنظومة التربوية الوطنية سوى أن تكون في قلب العصر قيما وتنظيمات وتعلمات وطرائق و وسائل حتى تظل حية ومتجددة وحتى تقوم بالدور الموكول إليها. إن تحقيق هذا الهدف لن يتيسر دون مراجعة التشريعات التربوية ومراجعة التنظيمات الإدارية ومراجعة التعلمات في مضامينها وفي وسائلها وفي طرائقها بما ييسر تحقيق أهداف العملية التربوية من جهة وبما يجعلها في قلب العصر لا على هامشه.
3- في بعض المقتضيات الإجرائية والمادية لتجديد المنظومة التربوية التونسية
يفرض هذا التصوّر العام لتجديد المنظومة التربوية جهدا وطنيا محكما يستهدف الإجابة على سؤال مركزي: هل يعني تجديد المنظومة التربوية نسف المنظومة القديمة وتعويضها بمنظومة جديدة تماما أم أنه يعني تشخيص مواطن الوهن في هذه المنظومة و وضع خطة وطنية لإصلاحها؟
تتجاذب الموقف من المنظومة التربوية رؤيتان:
- رؤية تقرّ بمكاسب المنظومة التربوية الوطنية ولا تنكر في الوقت نفسه ما دبّ إليها من قصور ووهن وتدعو إلى تثمين المكاسب التربوية والبناء عليها ومعالجة ما أصاب هذه المنظومة من وهن وضعف.
- ورؤية ثانية ترفض المنظومة الحالية بكليتها وتعتبرها شرا محضا ولا ترى فيها إلا فشلا وإخفاقا.
لكن التيار الذي يجرّم هذه المنظومة ويحمّلها مسؤولية ما يشهده الواقع التربوي من ظواهر سلبية تشمل التنظيم والتسيير والتعلمات والتقييم... ويقول بالقطع معها يحظى بالجاذبية وبالكثير من المناصرين و"المنظّرين" ما يعكس استعدادا نفسيا وذهنيا للقبول به... والحال أن مثل هذا القول يستحق المناقشة الجادة والمتأنية إن لم يكن مرفوضا أصلا.
فما مدى وجاهة تحميل المنظومة التربوية وحدها ودون سواها الهنات الحالية للواقع التربوي في البلاد ؟ أليست هذه المنظومة محكومة بشروط الزمان والمكان؟ أليست منتجا اجتماعيا يعكس واقع الوعي الجمعي بالأولويات الوطنية؟ و إذا أقررنا بأزمتها، أليست هذه الأزمة من أزمة المجتمع والبلاد عامة؟
إنّ القول بنسف المنظومة التربوية فيه تنكر لجهد أجيال من المربين على اختلاف أصنافهم ومسؤولياتهم ممن اجتهدوا على مر العقود في نشر نور المعرفة في بلادنا والولوج بها إلى الحداثة وتيسير الترقية الاجتماعية لأعداد كبيرة من التونسيين في كل أرجاء الوطن ...إن في هذا القول إنكار لأفضل ما أنتج شعبنا طيلة نصف قرن من الكدح والبذل والمعاناة. وإذا كان البعض يجرّم المنظومة التربوية بصفة كلية باعتبارها منظومة بورقيبة وبن علي فهو واهم: هذه المنظومة التربوية – على ما فيها من عيوب ونقائص وهنات- هي منظومة أنتجها الشعب التونسي بكل شرائحه، وبذل في سبيلها الدم والعرق والدموع، وأبناء الشعب من الفقراء والمهمّشين يعرفون أكثر من غيرهم ما بذل ذووهم من جهد وما كابدوا من شقاء وحرمان حتى يوفروا لهم ما ييسر متابعة الدراسة.
يفترض إصلاح المنظومة التربوية جهدا يمتدّ على فترة تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس سنوات ويشارك فيه المباشرون للشأن التربوي من إطار إشراف بيداغوجي ومدرسين وإداريين وعملة ومتعلمين عبر الهياكل التي تمثّلهم، كما يشارك فيه المجتمع السياسي والمدني. أما تحويل ما يتم التوافق عليه من توجهات إلى إجراءات عملية وميدانية فإنه يبقى من صلاحيات خبراء التربية دون سواهم.
ويشمل هذا الجهد بالبحث والدراسة و وضع التصورات المنظومة التربوية في جميع جوانبها: الفضاءات المدرسية والتجهيزات التعليمية والتنظيمات الإدارية وطرق التصرّف في الموارد البشرية والمالية، كما يشمل التعلّمات في مضامينها و وسائلها وطرائقها وفي تقييمها، و الحياة المدرسية، كما يشمل أيضا منزلة الإطار التربوي المادية والمعنوية.
الخاتمة
لا جدال في أن الشأن التربوي هو شأن وطني استراتيجي بامتياز وليس من المبالغة في شيء القول بأنه من المكونات المركزية للأمن الوطني. ولا جدال ثانية في أنه شأن وطني جامع لا يعني فقط المشتغلين عليه حرفة بل أنه يعني كل المواطنين التونسيين، ولا جدال أخيرا في أن مقاربة موضوعة التربية من زاوية الإصلاح والتجديد أضحت مهمة ملحة لا تحتمل التأجيل.
وما من سبيل للنجاح في مهمة إصلاح المنظومة التربوية وتجديد رسالة المدرسة التونسية إلا بمقاربة شاملة وتشاركية تأتي على كل مكونات العملية التربوية وعناصرها ولا تقصي أي طرف .
ومن واجب المواطنين والمجتمع المدني والمربين عامة النهوض لهذا الشأن الحيوي لمستقبل الوطن حتى تستعيد المدرسة التونسية دورها التاريخي في الارتقاء بالوطن معرفة وحداثة وترقية اجتماعية وحتى يظل وطننا في قلب العصر لا على هامش العصر و التاريخ.
*********************
حسين الحامدي/2013
متفقد أوّل للتاريخ والجغرافيا / المندوبية الجهوية للتربية ببن عروس
الهوامش
(1) شهدت البلاد التونسية تعاقب ثلاثة قوانين تنظّم العملية التربوية:
- القانون 118 لسنة 1958 المؤرّخ في 4 نوفمبر 1958.
- القانون 65 لسنة 1991 المؤرّخ في 29جويلية 1991.
- القانون 80-2002 المؤرّخ في 23 جويلية 2002.
(2) أشّرت التجربة اليابانية في التنمية على وجه التحديد إلى هذا التغير المشهود في أسس القوة والنفوذ في العالم المعاصر. ورغم أن هذه التجربة كانت ولا تزال محكومة بشروط تاريخية مخصوصة ، فإنها تبرز أن اقتناص ما يتيحه الظرف الدولي من فرص للنمو والتنمية، مضاف إليها القدرة الجلية على التكيف مع الصعوبات الطبيعية مثل المخاطر الطبيعية ( الإثلاج في الشمال والأمطار الموسمية في الجنوب والزلازل المتواترة...و الطابع الجزيري للأرض، والافتقار إلى الموارد الطبيعية مثل ضعف المساحات الزراعية، وندرة الموارد الطاقية والمنجمية...)، مضاف إليها أخيرا القدرة على إبداع تنظيمات اقتصادية واجتماعية تستلهم من الإرث الثقافي هي واحد من أهم أسباب القوة التي امتلكها هذا البلد الذي لا شيء يؤهله لمثل هذا الموقع بالنظر إلى موارده من وجهة النظر التقليدية للقوة وأسبابها.
(3) تؤكّد المكانة المتنامية لأقطار مثل الصين الشعبية والاتحاد الهندي وكوريا الجنوبية وماليزيا في الاقتصاد العالمي، فضلا عن بلدان الشمال المتقدمة أصلا، أن اقتصاد المستقبل هو اقتصاد المعرفة. ولعل هذه السمة المعاصرة للاقتصاد العالمي هي التي تفسر – إلى جانب عوامل أخرى- نزوع البلدان المتقدمة إلى إعادة توطين الأنشطة الاقتصادية " التقليدية" ومنها صناعات الجيلين الأول والثاني في بلدان الجنوب وفي البلدان في طور الانتقال الاقتصادي.
(4) Francis Fukuyama, La fin de l’Histoire et le Dernier Homme, Flammarion 1992.
(5) انتظمت هذه الندوة أيام 29 و30 و31 مارس 2012 بنزل البلاص بقمرت وشارك فيها خبراء تونسيون وأجانب وعدد من رجال التربية من مختلف جهات البلاد. وقد شهد يومها الثاني احتجاج المربين الحاضرين على تنظيم هذه الندوة وعلى مضمونها.
أنظر: جريدة المسيرة، العدد 11، من الثلاثاء 3أفريل إلى الاثنين 9 أفريل2012، ص3:"ندوة وزارة التربية : التقييمات والانتظارات" وخاصة تصريحات المولدي الراجحي عضو النقابة العامة للتعليم الأساسي وتصريحات الأسعد اليعقوبي الكاتب العام للنقابة العامة للتعليم الثانوي.
(6) وزارة التربية والتكوين، الأمر المنظم للحياة المدرسية، عدد 2437 لسنة 2004 المؤرّخ في 19 أكتوبر 2004، مطبعة المركز القومي البيداغوجي.
(7) أنظر النتائج التي حققتها بلادنا في التقييمات الدولية في الرياضيات والقراءة والعلوم وحل المشكلات ضمن تقييم PISA لسنة 2006، الموقع: www.pisa.oecd.org
(8) Cnipre/unicef , Actes du colloque international « Pour une école du dialogue et du respect », Tunis, 14-16 Avril 2005, voir en particulier l’intervention de Jean-Paul Payet : Violence à l’école…p33.
(9) "الحوض التربوي/المدرسي": مجال جغرافي- تربوي يجمع مؤسسات تربوية تتسم بالتجانس في محيط التعلم ( الأنشطة الاقتصادية، الوضع الاجتماعي، البنى التحتية التربوية....) وفي المشكلات التربوية ( الإخفاق المدرسي، الانقطاع المبكر، ضعف النتائج في مواد تعليمية مخصوصة، العنف المدرسي...) ما يتطلب استراتيجية علاج مخصوصة تأخذ بعين الاعتبار سمات الواقع التربوي، علاوة على المعالجات المبرمجة على المستوى الوطني...
(10) الدكتور مراد البهلول، " قراءة نقدية في الإصلاحات التربوية بتونس من 1958 إلى 2002". الندوة الوطنية حول منهجية الإصلاح التربوي، 29 و30 و31 مارس 2012.